السبت، سبتمبر 29، 2012

الويل لنا

 
عبدالرزاق بني هاني
جاء صديقي العزيز فرناندو، من الولايات المتحدة الأمريكية، لزيارتي في بلدي المعطاء، وذلك بعد غياب دام أكثر من ثلاثين عاماً على آخر لقاءٍ بين الإثنين. وقد رافقته ماريا، امرأته الحامل، في رحلة مضنية دامت أكثر من 72 ساعة من الطيران والانتظار في المطارات الأوروبية. وما أن وصل وشاهدني، في قاعة الاستقبال في المطار، حتى هطلت دموع الفرح والحزن معاً: دموع الفرح على الانتهاء من معاناة السفر من أقصى الغرب الأمريكي، ثم مشاهدته لصديقه الذي أدام التواصل معه طيلة أربعة عقود. أما دموع الحزن فكانت على ما لاقاه من سؤ المعاملة في المطارات الغربية، وشدة خوفه على زوجته الحامل. وقد عجبتُ من مصاحبته لزوجته بتلك الحال. وعندما سألته عن الأمر، أجاب بأن زوجته جاءت إلى الأردن كي تضع مولودها قرب المغطس، تيمناً بعيسى عليه السلام.
قضى بصحبتي مايزيد على شهر، بانت له خلالها عجائب العيش في وطن الأنبياء!
في ذات ليلة شعرت ماريا بآلام المخاض، فاستبشرت خيراً، وطلبت من فرناندو أن يرتب لها حتى تصل إلى منطقة المغطس كي تضع المولود المنتظر هناك، لعله يسير على درب عيسى بأخلاقه وتفانيه من اجل السلام. لكن حالتها لم تسمح بذلك، فاضطر فرناندو أن يتصل بي بعد منتصف الليل كي يسألني عن مستشفى للولادة.
لم يخطر ببالي إلا مستشفى واحد، يبدأ بكلمة تعني السعادة، اضطر فرناندو أن يأخذ ماريا إليه كي تضع مولودها فيه. وقد تفاجأ فرناندو من الكذب الذي مارسه عليه العاملون في المستشفى، وخاصة من  الأطباء الذين يتظاهرون بمظهر النساك، لكنهم كانوا يتصرفون وكأنهم قاطعو طرق. لم يكن فرناندو معتاداً على ما رأى. وقال لي بأن بعض الأطباء يتصرفون وكأنهم تجارٌ في سوق الممنوعات عند الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، يكذبون كيفما يحلو لهم: الكذب حول ما تحتاجه زوجته حتى تضع المولود، الكذب بأثمان الأدوية، الكذب بالتشخيص، الكذب بسعر الإقامة. لكن فرناندو، وبصفته ضيفاً، لم يكن أمامه إلا الرضوخ لسؤ المعاملة، ودفع المبلغ المطلوب بهدؤ. وأذكر جملة واحدة فقط مما قاله وهو يخرج من المستشفى (... الويل لمن يرتدي صوف الحَمَل ويلبس أسناناً كأسنان الذئب ...) وقد أرعبني بذلك الوصف الغريب.
بعد حوالي أسبوعين، أخذ سيارتي الوحيدة كي يقضي يوماً مع  زوجته في جبال عجلون. فقد ملَ من جو عمان الخانق خلال الصيف. ومع حلول المساء أراد الرجوع إلى عمان، سالكاً نفس الطريق الذي سار عليه في الصباح. وقبل وصوله إلى جرش، وفي سكينة الليل، سقطت السيارة التي كان يقودها، في حفرة تقع في منتصف الشارع العام.
لم تكن هناك إشارة أو لافتة تنبه السائقين إلى الخطر الذي تشكله حفرةٌ في طريقٍ عام، مكتوب على جانبيها بأن حدود السرعة 80 كم/ساعة. أما المحزن في كل ذلك أن فرناندو وجد صفيحة من صاج الحديد داخل الحفرة وقد كُتب عليها باللغة العربية كلمة خطر. لم يعرف فرناندو قراءتها، لكن أحد السائقين ترجمها له، مما دفعه للضحك بأعلى صوته قائلاً: إشارة التنبيه من الخطر موجودة داخل الحفرة!
بعد منتصف الليل تمكن بمساعدة بعض السائقين من سحب السيارة إلى محلٍ لتصليح السيارات.
كان المحل مغلقاً، فاضطر فرناندو أن يبيت تلك الليلة في بيتٍ يعود لشخصٍ لايعرفه، فقد عرض عليه ذلك الشخص المجهول أن ينام هو وزوجته وولده الرضيع في بيته لِما رأى عليه من حزن وارتباك، وعدم معرفة بالتصرف السليم في مكان غريب.
في الصباح الباكر، ذهب فرناندو إلى محل التصليح، وانتظر لساعتين حتى فتح صاحب المحل محله. وتفاهم معه بلغة الإشارة عن الحادث الذي وقع الليلة الماضية. فبدأ الرجل بتصليح السيارة، حتى انتهى منها بعد خمس ساعات. وبعد ان تحاسبا، كانت تكاليف التصليح قد تجاوزت الألفي دينار، لكن الشيء المضحك الذي لفت انتباه فرناندو هو أن الميكانيكي قد أعطاه كيساً بلاستيكياً مليئاً بالبراغي والصوامين، وقال له بأن هذه البراغي والصوامين زائدة في السيارة.
أخذ فرناندو زوجته وطفله وقفل راجعاً إلى عمان. وفي طريقه وقف عند أحد بائعي الفاكهة كي يشتري شيئاً يُطعم زوجته، فأعجبه منظر التين الأحمر، وهو مرتبٌ على شكل هرم في صناديق البوليسترين الصغيرة، فطلب من البائع واحداً من هذه الصناديق، فأخذه مقابل (4.06) دينار، ثم قاد سيارته وانطلق.
كانت ماريا معلمة للحساب في إحدى مدارس لوس أنجليس. وأثناء الرحلة إلى عمان، أرادت معرفة عدد حبات التين التي اشتراها زوجها، فوجدتها (28) حبة، معظمها صغير الحجم غير ناضجة، وهي مخبأة تحت الطبقة الأولى، ولم يتمكن هو أو زوجته إلا أكل عشر حبات منها.
أنتهت رحلة فرناندو بعد أسبوع على حادث الوقوع في الحفرة. وفي طريقنا إلى المطار قال لي ... ياصديقي ليس هناك أمل ...
قلت مماذا يافريناندو ؟
قال ... أرض الأنبياء أصبحت مرتعاً للجهلة واللصوص ... طبيبٌ قد يسرق حياتك من أجل المال ... وفخ يُنصَبُ لك في منتصف الطريق ... وضعوا لك علامة التنبيه من الخطر داخله ... وقد جعل الرجل، الذي أصلح السيارة، من نفسه مهندساً أكثر براعة وفهماً من صانعي السيارات في أمريكا أو اليابان ... وأكلت تيناً، وهو أكل الفقراء ... كلفتني حبة التين الواحدة مايزيد على نصف دولار !!! . ألم تقل لي ياصديقي بأن هناك مايزيد على مئة ألف إنسان في بلادك، وهي بلاد الأنبياء، يعيش الواحد منهم على أقل من دولارٍ واحدٍ في اليوم ؟ هل هذا يعني بأن هناك إنساناً عندكم يساوي أقل من حبتين من التين ؟ ...
لم يخطر ببالي قط بأن فرناندو قد قطع البحور السبعة كي يُعلمني عن مستوى البؤس الذي تعيشه فئة من سكان بلاد الأنبياء... فالويل لنا ...
 


قانون تناقص العائد على الاستبداد والدم

 
عبدالرزاق بني هاني
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، الذي جعل التماثل في الطبيعة قانوناً لايخيب. فقد خطر ببالي التماثل العجيب بين قوانين الاقتصاد وقوانين الثورات والحروب. ومن هذا الإطار استلهمت عنوان المقال. وقبل أن أبدأ بسرد أفكاري أرجو ممن يرى بنفسه غبياً أو متكبراً أن لايستمر في القراءة، لأن المقال موجه إلى اصحاب النفوس الطيبة، والعقول الصافية.
يقول قانون تناقص العائد بأن انتاجية أي شيء، مهما كان شكله وجوهره، لابد أن تتناقص بعد لحظة ما، وهذه اللحظة هي حرجة بطبيعتها. وعلى سبيل المثال ترتفع إنتاجية العمال قليلي العدد على خطوط الإنتاج بزيادة سريعة جداً، ثم تأخذ بالتناقص التدريجي كلما زاد عدد العمال، إلى أن تصبح صفراً، وربما تصبح أقل من صفر لأن كثرة العمال تعيق الإنتاج. وينطبق هذا القانون على الجنود المحاربين في ساحة المعركة، حيث تكون كمية الخوف المستبد في نفوسهم عند بداية الحرب عالية جداً، ثم تأخذ بالتناقص التدريجي إلى أن يصبح الموت شيئاً معتاداً بينهم، ليس لأنهم أبطال، بل لإن الأثر الإضافي للخوف يتلاشى تدريجياً إلى الصفر، وعندها قد يكسب الجنود المعركة. والشكل التالي يوضح الفكرة.

عندما اندلعت الثورة في تونس، ثم مصر وليبيا، رصدتُ (شخصياً) ظاهرة قانون تناقص العائد، وكأنما كان له القول الفصل في حسم الأمور. فقد بدأت المظاهرات ضد أنظمة الحكم على استحياءٍ وخوفٍ ووجل مما قد تقوم به السلطة في كل دولة. فقتلت ونكّلت واعتقلت من جماهير الشعب، حتى أصبح الموت والتنكيل والاعتقال أحداث عادية. وتراجعت كمية الخوف عند المتظاهرين بعد أولِ قطرةِ دمٍ أريقت. وبعد مدة تفاقمت المظاهرات حتى أصبحت عارمة، وكان رد فعل السلطة في كل دولة مزيداً من القتل والتنكيل. وحيث أن كمية الخوف تتناسب عكسياً مع شدة التنكيل، وهو مايؤكده قانون تناقص العائد، فقد اشتدت المظاهرات حتى انقلبت إلى ثورات هزت كيان السلطة في كل دولة وزال نظام الحكم برمته.

مايعجبني في هذا القانون بأنه كامن، وينطبق على أية ظاهرة يمكننا تخيلها. وعلى سبيل المثال، عندما يزداد كذب الحكومة على شعبها، فإن أثر الكذبة الأولى يكون كبيراً جداً، لكن أثر الكذبة التالية يتناقص، وهكذا إلى أن يصبح أثر الكذب صفراً.

إن أعظم شيءٍ اكتشفته في هذا القانون بأن له نتيجة تابعة تقول: ( ... تستطيع خداع كل الناس لبعض الوقت، ...وتستطيع خداع جزءٍ من الناس لبعض الوقت، ... لكنك لاتستطيع خداع كل الناس كل الوقت...). ونصيحتي إلى من يعنيهم الأمر بأن يأخذوا قانون تناقص العائد على محمل الجد، قبل أن يتحلل الناس من خوفهم، ويأكلوا الأخضر واليابس، مثلما يفعل شعبٌ، كنا في الماضي القريب نقول عنه أنه شعبٌ جبان.



 
 


ملامح المرحلة المقبلة (1)

د.عبدالرزاق بني هاني
يقيني لم يتبدل منذ أن وعيت، فهو راسخ كالجبال الرواسي، التي جعلها الله أوتاد الأرض، بأن كل المصائب التي حلت بنا، وتحل بنا، ماهي إلا نتاجٌ طبيعي - يقيني لموضوع الساعة، لأنه كان موضوع الساعة الماضية بامتياز. ولأن النتائج، دائماً، محكومة بالمقدمات، فإن الفساد والسكوت عنه لم يأت لنا إلا بالكوارث والتعاسة والبؤس والحرمان.
ونحن إذ نجترُ هذا الحمل الثقيل منذ زمنٍ ليس بالقريب، ونعيش في ظله المقيت، فإن نفسي تحدثني، وتؤكد مايتوارد لي من معلوماتٍ يقينية، وتحليلات عميقة، بإننا لن نتخلص من الفساد وطغمة الفاسدين بسهولةٍ ويسر، بل لابد من معاناةٍ قاسية، واشتداد الظلم والظلام، وتعسف الأرعن من أصحاب الشأن. فلم يعد هناك من يمتلك حكمةً يرى من خلالها الخطر المُحدّق بنا جميعاً، حكام ومحكومين. وكأن من بيدهم الأمر لايقرأون التاريخ، ولايتعضون من محن الآخرين. لأن الفاسد بطبعه لايستحي من الحق، وقد طبع الله على قلبه، فهو لايرى النور، بل يرى بالباطل خلاصاً ومن أمثال هؤلاء من خرج ليقول لنا بأننا في الأردن لسنا في حاجة إلى إصلاح، بل في حاجة إلى تنمية اقتصادية فقط. فهو لايرى في الناس إلا بهائم رتع، لايهمها في هذه الدنيا إلا الأكل والشراب والملذات كما الأنعام والبهائم. وهو نفسه الذي قال بأن الانتخابات ستجري بمن حضر، فهو لاينظر إلى الناس إلا بعين الاحتقار والإزدراء، ويرى في نفسه أنه أرقى منهم حسباً ونسباً، وهو صاحب الحق الإلهي في التكبر على الناس. وهكذا كان فرعون، وكان كثيراً ممن توهموا بأنهم خالدون، وأن عامة الناس عبيدٌ ترضى بلقمة العيش بديلاً عن الكرامة والكبرياء. وقد صدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: السعيد من اتعض بغيره، والتعيس من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
لقد ابتلانا الله سبحانه وتعالى، على مدار الأعوام الثلاثة عشر المنصرمة بصعودٍ حادٍ لمنحنى الفساد، بشكلٍ غير مسبوق، فاستقوى الفاسدون من كل لون على نحوٍ غير مألوف. ولم نكتف بالفاسدين المحليين، بل استوردنا فاسدين من انتاج بيوت الهوى في واشنطن كي يبتكروا لنا أساليب إفسادٍ لم نعهدها من قبل: كيف نخرب النظام الاقتصادي، كي نفسد النظام السياسي، كيف ندمر النظام الاجتماعي، ونزوّر النظام التشريعي، ونُسطِّح النظام التربوي والتعليمي ونتفههُ حتى يغدو ملهاة تفسد الأجيال. وبالملخص كيف نفسد السلطة ونفسد المثتَسَلِط عليهم، وهم عامة الناس، وكيف نركّع الدولة حتى تمضي باستحقاقات خطيرة، تكون آثارها مدمرة لمستقبنا. ولو طرحنا عطاءاً دولياً لتعيين أفسد الفاسدين كي يخربوا حياتنا في جميع أبعادها لما عثرنا على شَبَهٍ لعصابة الفاسدين الذي عاثوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد. ولكن الأخطر من ذلك كله هو إني أرى جيلاً كاملاً قد أصبح نتاجاً مشوهاً، واقعياً، لثقافةٍ تؤسس للفساد وتصنعه، وترسخه وتقويه.
 هذه الثقافة أْلِفها الناس حتى أصبحت حياة مُعاشة يتكيفون معها لأسباب عديدة، وأستمرأها البعض فأصبحت لهم عُرفاً وقانوناً يدافعون عنه، ولايستطيعون العيش بدونه، وأكبر مثالٍ على ذلك ما قام به عددٌ من النواب وأعوانهم من شياطين الإنس والجن ووزراء الغفلة في تقنين الفساد وشرعنته، وهي سابقةٌ قد تستحق لعنة الله على من بادر بها وأيدها، أنى كان مصداقاً لقوله تعالى " ... ولذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ، أو فسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً ... "
تحتدم الآن المعركة بين الحق والباطل، والناهب والمنهوب، وأصحاب السلطة الفاسدة والمواطن المغلوب، وموالاة مزورة قبلت بالفساد منهج حياة ومصيراً  ومعارضة حقيقية ... بين فسادٍ يستشري وإصلاحٍ واجب، بين خلطاء الظلم والظلام والمدافعين عن العدل والنور، بين أصحاب المشروع الوطني - النهضوي الذي يجعل من  الوطن قلعة منيعة في وجه كل آثم أو معتدٍ وبين من يخططون في الليل والنهار كي يجعلوا من هذا البلد الطيب قاعدة للخبث ومنطلقاً للرذيلة وتبعاً لأبناء القردة والخنازير.
وحيث أن الحقَ والباطلَ بيّنان كما الشمس في واضحة النهار ... فلابد للواحد منا أن يختار بإرادته الحرة، وملىء فيه، تحت أي لواءٍ ينضوي ومع من يقاتل: في صف الرحمن أم في صف الشيطان، في صف الفساد أم في صف المفسدين، مع فئة الظالمين المنحرفين الضالين، الذين تربوا وترعرعوا في بيوت بنات الهوى، أم مع فئة المظلومين المحرومين والمُصلحين ؟ فطوبى لمن يصلح ما أفسد الناس ...
تعيش دولتنا في الوقت الراهن أزمةً حقيقية، لاينكرها إلا ضال، ملخصها أن القائمين على الأمر يتمسكون بواقعٍ مريرٍ فاسد، دون محاولة جادة، مهما كانت، لتغيير هذا الواقع السيء، إلا تجميلاً في الشكل، ... كي يضللوا البسطاء والجهلة، لكنهم يمعنون في اغتيال العقل، وتقبيح الجوهر إلى ما هو أقبح منه. ويخطط هؤلاء كي يديموا حلقة الخبث، ودائرة الفساد المحيطة التي أسسوا لها منذ عقود، وبفعلها أصبحوا أثرياء وأصحاب سلطة غير شرعية، ظلموا من خلالها الناس،وتعسفوا في قراراتهم وأنتجوا ثقافة مسخ لايعرف فيها المواطن إلا نفسه وليس لديه قاموس أخلاق يهتدي به أو عرفاً جميلاً يتمسك به. وها نحن مقبلون على مرحلة فسادٍ جديدة، يشتد فيها الفساد أكثر مما كان في الماضي، ويتعسف فيها الظالمون بشكل أشد، يصبح خلالها الأولاد، الذين يفتقرون للحكمة والوطنية، أسياداً على العباد، ولايعرفون تدبر شؤون الحياة إلا بالفساد والإفساد وتتبع الشهوات الدنيئة ...
خلال الخمسة والثلاثين شهراً الماضية ... قامت مجموعة من الأساتذة الجامعيين، وكنت منهم، باستطلاع آراء أكثر من عشرين ألف مواطن حول الواقع المعاش، شملت هذه العينة الدراسية طلاباً وأساتذة جامعات ومعلمي مدارس خاصة وعامة وموظفين من القطاعين الخاص والعام، ونواب وأعيان، وتجار وحرفيين من شتى الأصناف والمهن، وغطت العينة كل المحافظات، والفئات العمرية (60) سنة أو أقل، وهم يمثلون أكثر من 90% من مجموع السكان. وكانت طريقة الإستطلاع ما يسمى (casual poll) أي الاستطلاع غير الرسمي جاء في نقاشات منهجية ... وجاءت الأسئلة الموجهة للمستطلعين على عدة طبقات حول القضايا الاقتصادية، والسياسية، والثقافية – الاجتماعية ...
وقد شدتني نتائج الاستطلاع بشكل لافت. وهاكم بعض النتائج التي توصلنا إليها :
-       الرضى عن رؤساء الوزارات خلال الثلاثة عشر عاماً الماضية 2%.
-       الرضى عن الوزراء، بشكلٍ عام، 1%.
-       الرضى عن سياسات الحكومة وجهودها في تحسين مستوى المعيشة 5%.
-       الرضى عن أداء مجالس النواب 1%.
-       الرضى عن النواب، بشكل عام، 2%.
-       الرضى عن سياسات التربية والتعليم 1%.
-       الرضى عن السياسات الخارجية 0%.
-       الرضى عن سياسات مكافحة الفساد 0%.
-       الرضى عن القوانين والتشريعات الناظمة للحياة العامة 1%.
-       الرضى عن السياسات الداعمة للوحدة الوطنية 10%.
-       الرضى عن سياسات التعليم العالي 3%.
-      الإحساس بالعدل 3%.
-       الإحساس بالظلم 97%.
-       الإحساس بالضعف والاحباط 95%.
-       مصداقية الديموقراطية 2%.
-      الإحساس بالأمن 90%.
-       الأمل بالمستقبل 5%.
-       الإحساس بالأمن الاجتماعي 10%. (عادات وتقاليد داعمة للأمن الاجتماعي).
-       الإحساس بالسلام الاجتماعي 2%.
-       الإحساس بالتفكك الاجتماعي 85%.
-       التوجه نحو المجهول 95%.
-       الإحساس بالعنف المجتمعي 97%.
-       الإحساس بفساد المسؤول 93%.
-       الاستعداد لممارسة العنف 90%.
-       الشعور بهشاشة النظام العام 98%.
-       الشعور بهشاشة النظام الاقتصادي 95%.
-       الشعور بتفاقم الجريمة على نحوٍ ملحوظ جداً 100%.
تشير الاحصائيات الرسمية إلى واقعة الجريمة، بشكليها: الجناية والجنحة. وتستثني جرائم الفساد التي لايعلمها إلا الله والضالعون في الفساد، وتستثني أيضاً الجرائم التي لم يُبلغ عنها.
الجرائم حسب نوعها خلال الفترة 2006 - 2010
السنة
الجريمة   
2006
2007
2008
2009
2010
الجنايات
7114
8099
7997
8327
9569
الجنح
31994
34897
36725
38393
43794
المجموع
39108
42996
44772
46720
53362
بحساب بسيط نحصل على نمو الجريمة بنسبة 8% سنوياً، وهي أكثر من نسبة نمو السكان بمعدل يفوق 5%. وبحساب بسيط أيضاً نجد أن حجم الجريمة يتزايد بنسبة 100% كل 8 سنوات و 11 شهر، إذا بقيت الأمور على ماهي عليه. أما عدد السكان فإنه يتضاعف كل 25 سنة. وحيث أن السلطة متفرغة بالكامل لقمع المعارضة السياسية السلمية، فإن الجريمة تتفاقم مثل الخلايا السرطانية، بهدؤ، دون أن يتصدى لها أحد إلا على استحياء. وسيكون نصيب الأسرة من الجريمة حدثاً يقينياً، في المستقبل القريب، إلا إذا تغمدنا الله سبحانه وتعالى برحمته ومعافاته ...
لو جاز لي أن أطرح سؤالاً: ماهي ملامح المرحلة المقبلة ؟
1-  دعوني أبدأ بمجلس النواب القادم ... ويؤسفني القول بأنني متشائم جداً مهما حاول أصحاب السلطة الراهنة بأن يخلعوا عليه من صفات وهمية كالنزاهة والمصداقية والتمثيل الفعلي للسكان والهيبة والوقار على بعض منتسبيه، إلا أنه سيبقى فارغاً إلا من مضمون واحد وهو الدفاع عن الفاسدين والمفسدين. وبظني العلمي سيكون المجلس القادم نسخة أسوأ من النسخة الراهنة، والنسخ القديمة، السيئة بامتياز. سيُشرّع المجلس القادم قوانين فاسدة لحماية الذين جاؤوا بهم إلى مجلس التشريع. والآن يقوم بعضٌ ممن أصبحوا وزراء على غفلةٍ منا جميعاً بتجميع قوى الشر حولهم، ويعقدوا التحالفات لإيصال أزلامهم إلى البرلمان. وحسب علمي بأن هناك مجموعتين وضعتا الخطة اللازمة لترشيح بعض الفاسدين من أمثالهم كي يخوضوا الانتخابات القادمة: واحدة تحت إمرة البهلوان، والثانية تحت إمرة أحد وزراء المالية السابقين، وهو فاسد وأثرى على حساب المال العام. والمخفي أعظم ...
2-  بالنسبة للوضع الاقتصادي ... تقول القراءات التحليلية بأن الوضع الاقتصادي العالمي لن يتمكن من بدأ العودة في رحلة الصعود إلا بعد العام 2015 – 2018، ... واقتصادنا جزء من الاقتصاد العالمي، نتأثر به ولا نؤثر به. ستتفاقم مشاكل المديونية وعجز الموازنة، وعجز ميزان المدفوعات. نحن الآن نتحدث عن أكثر من 19.5 مليار دولار مديونية عامة ... و 3 مليار دولار عجز في الموازنة العامة ... وأكثر من 8.4 مليار دولار تقريباً عجز في ميزان المدفوعات ... محسوبة على أساس 100 دولار لبرميل النفط ... وإذا حدثت حرب في منطقة الخليج العربي، وأغلق مضيق هرمز فإن برميل النفط سيرتفع إلى 150 دولاراً للبرميل الواحد، ويرتفع عجز ميزان المدفوعات إلى ما يزيد عن 9.8 مليار دولار، مع ما يرافق ذلك من هبوط في الاحتياطي من العملات الصعبة، وتأثر القوة الشرائية للعملة المحلية، وأثر ذلك على الفقراء.
 أذكر هنا بأن الاحصائيات الرسمية تشير إلى أن العجز في الميزان التجاري تزايد خلال الفترة 1990 – 2010 بأكثر من 9% سنوياً، مما يعني أنه يتضاعف خلال مدة أقل من ثمان سنوات.
3-  تقول التقارير غير الرسمية الأكثر صدقاً من التقارير الرسمية بأن البطالة العمالية وصلت إلى 30% من حجم القوى القادرة على العمل.
4-  تقول التقارير غير الرسمية الأكثر صدقاً من التقارير الرسمية بأن نسبة الفقر المطلق (أكل شرب نام ... ولا تقدم في الحياة) فاقت كل التوقعات، وهي أكثر من 25% من مجموع السكان. وهناك أكثر من 100 ألف إنسان يعيش الواحد منهم على أقل من (71) قرش يومياً ... (على أساس أن الدولار = 0.71 دينار)
5- تقول التقارير الرسمية بأن مستورداتنا من الغذاء تزايدت بنسبة فاقت 13.5% سنوياً خلال السنوات 2006 – 2010، مما يعني بأن حاجتنا إلى الغذاء المستورد تتضاعف كل 5 سنوات ...
6-  تقول التقارير الدولية بإنه لم تكن هناك أية جامعة عربية من الـ 500 جامعة الأولى في العالم.
إن التعليم العالي في البلاد جزء من المنظومة الفكرية – الثقافية – التعليمية، ويتراجع مثلما يتراجع الإصلاح نفسه. ورغم كل التجميل الظاهري الذي تقوم به الدوائر المعنية ... إلا أن السوية الأكاديمية – الفكرية - البحثية للطالب الجامعي تراجعت منذ بداية العقد الماضي، وإلى هذه اللحظة. وما زال التراجع مستمراً وسيبقى إلى ردحٍ من الزمن لأن تعيين الأستاذ الجامعي لايكون إلا بالواسطة والمحسوبية، وحجم المنافسة الحقيقية على مقاعد التعليم العالي متدنية جداً.
7-  حصل تلميذنا على آخر مرتبة في الرياضيات والفيزياء والعلوم العامة من بين 45 دولة تقدم طلبتها لأمتحان دولي ...
إن المستقبل... إذا بقيت الأمور على ما كانت عليه في الماضي القريب وماهي عليه الآن لايبشرُ أبداً إلا بمزيدٍ من الفاقة والبؤس والحرمان والتمرد والعنف واستقواء الفاسد على الصالح وصاحب السلطة على المحكوم. وكل ذلك بسبب الفساد الفكري والإداري والمالي الذي مارسه الفاسدون وأصحاب السلطة الفاسدة.
إزاء هذه الصورة المظلمة ... ماهو الحل ؟ ...
لقد دعوت قائد البلاد، في أكثر من مناسبة، أن يعلن ثورة من أي لون شاء ... يطيح من خلالها بالفاسدين مهما كانوا وحيثما كانوا، وخاصة أولئك الذي نهبوا البلاد وما زالوا يتبجحون بالشرف كذباً واستهتاراً بمن يطالب بالإصلاح ...
أطالب قائد البلاد بأن يقود بنفسه لواء الإصلاح، ولاضير في ذلك، وأن لايستمع إلى أصحاب الهوى من المغرضين الذي يجمّلون الحال على عكس حقيقتها ...
وانطلاقاً من خوفي وحبي لبلدي ... فإني أدعو قائد البلاد للمرة العاشرة بعد المئة ليعلن ثورته على كل هذه الوضع السيء، وأن يطيح بالفاسدين مهما كانوا، وأن يبادر بالإصلاح الذي إن أهملناه وتجاهلناه  فإنه سيأتي بالدم لاقدر الله ... والمطلوب منا جميعاً أن نتكاتف وأن نتجمع حول بعضنا البعض لأن الهجمة قادمة. فالفاسدون يواصلون الليل بالنهار كي يطيحوا بنا جميعاً ويبقوا في المواقع التي تمكنهم من ادامة الفساد بشتى أنواعه. والأولى بنا نحن، من نزعم بأننا أصحاب حق، أن نتآلف ونتجمع حول بعضنا بعضاً، ونكون سداً منيعاً في وجه هذه الطغمة الفاسدة ... وحسبنا الله في الدينا والآخرة ...
16/08/2012
 


[1] -  في الأصل كانت محاضرة ألقيت في مقر حزب جبهة العمل الإسلامي – مادبا، 15/08/2012