السبت، سبتمبر 29، 2012

الويل لنا

 
عبدالرزاق بني هاني
جاء صديقي العزيز فرناندو، من الولايات المتحدة الأمريكية، لزيارتي في بلدي المعطاء، وذلك بعد غياب دام أكثر من ثلاثين عاماً على آخر لقاءٍ بين الإثنين. وقد رافقته ماريا، امرأته الحامل، في رحلة مضنية دامت أكثر من 72 ساعة من الطيران والانتظار في المطارات الأوروبية. وما أن وصل وشاهدني، في قاعة الاستقبال في المطار، حتى هطلت دموع الفرح والحزن معاً: دموع الفرح على الانتهاء من معاناة السفر من أقصى الغرب الأمريكي، ثم مشاهدته لصديقه الذي أدام التواصل معه طيلة أربعة عقود. أما دموع الحزن فكانت على ما لاقاه من سؤ المعاملة في المطارات الغربية، وشدة خوفه على زوجته الحامل. وقد عجبتُ من مصاحبته لزوجته بتلك الحال. وعندما سألته عن الأمر، أجاب بأن زوجته جاءت إلى الأردن كي تضع مولودها قرب المغطس، تيمناً بعيسى عليه السلام.
قضى بصحبتي مايزيد على شهر، بانت له خلالها عجائب العيش في وطن الأنبياء!
في ذات ليلة شعرت ماريا بآلام المخاض، فاستبشرت خيراً، وطلبت من فرناندو أن يرتب لها حتى تصل إلى منطقة المغطس كي تضع المولود المنتظر هناك، لعله يسير على درب عيسى بأخلاقه وتفانيه من اجل السلام. لكن حالتها لم تسمح بذلك، فاضطر فرناندو أن يتصل بي بعد منتصف الليل كي يسألني عن مستشفى للولادة.
لم يخطر ببالي إلا مستشفى واحد، يبدأ بكلمة تعني السعادة، اضطر فرناندو أن يأخذ ماريا إليه كي تضع مولودها فيه. وقد تفاجأ فرناندو من الكذب الذي مارسه عليه العاملون في المستشفى، وخاصة من  الأطباء الذين يتظاهرون بمظهر النساك، لكنهم كانوا يتصرفون وكأنهم قاطعو طرق. لم يكن فرناندو معتاداً على ما رأى. وقال لي بأن بعض الأطباء يتصرفون وكأنهم تجارٌ في سوق الممنوعات عند الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، يكذبون كيفما يحلو لهم: الكذب حول ما تحتاجه زوجته حتى تضع المولود، الكذب بأثمان الأدوية، الكذب بالتشخيص، الكذب بسعر الإقامة. لكن فرناندو، وبصفته ضيفاً، لم يكن أمامه إلا الرضوخ لسؤ المعاملة، ودفع المبلغ المطلوب بهدؤ. وأذكر جملة واحدة فقط مما قاله وهو يخرج من المستشفى (... الويل لمن يرتدي صوف الحَمَل ويلبس أسناناً كأسنان الذئب ...) وقد أرعبني بذلك الوصف الغريب.
بعد حوالي أسبوعين، أخذ سيارتي الوحيدة كي يقضي يوماً مع  زوجته في جبال عجلون. فقد ملَ من جو عمان الخانق خلال الصيف. ومع حلول المساء أراد الرجوع إلى عمان، سالكاً نفس الطريق الذي سار عليه في الصباح. وقبل وصوله إلى جرش، وفي سكينة الليل، سقطت السيارة التي كان يقودها، في حفرة تقع في منتصف الشارع العام.
لم تكن هناك إشارة أو لافتة تنبه السائقين إلى الخطر الذي تشكله حفرةٌ في طريقٍ عام، مكتوب على جانبيها بأن حدود السرعة 80 كم/ساعة. أما المحزن في كل ذلك أن فرناندو وجد صفيحة من صاج الحديد داخل الحفرة وقد كُتب عليها باللغة العربية كلمة خطر. لم يعرف فرناندو قراءتها، لكن أحد السائقين ترجمها له، مما دفعه للضحك بأعلى صوته قائلاً: إشارة التنبيه من الخطر موجودة داخل الحفرة!
بعد منتصف الليل تمكن بمساعدة بعض السائقين من سحب السيارة إلى محلٍ لتصليح السيارات.
كان المحل مغلقاً، فاضطر فرناندو أن يبيت تلك الليلة في بيتٍ يعود لشخصٍ لايعرفه، فقد عرض عليه ذلك الشخص المجهول أن ينام هو وزوجته وولده الرضيع في بيته لِما رأى عليه من حزن وارتباك، وعدم معرفة بالتصرف السليم في مكان غريب.
في الصباح الباكر، ذهب فرناندو إلى محل التصليح، وانتظر لساعتين حتى فتح صاحب المحل محله. وتفاهم معه بلغة الإشارة عن الحادث الذي وقع الليلة الماضية. فبدأ الرجل بتصليح السيارة، حتى انتهى منها بعد خمس ساعات. وبعد ان تحاسبا، كانت تكاليف التصليح قد تجاوزت الألفي دينار، لكن الشيء المضحك الذي لفت انتباه فرناندو هو أن الميكانيكي قد أعطاه كيساً بلاستيكياً مليئاً بالبراغي والصوامين، وقال له بأن هذه البراغي والصوامين زائدة في السيارة.
أخذ فرناندو زوجته وطفله وقفل راجعاً إلى عمان. وفي طريقه وقف عند أحد بائعي الفاكهة كي يشتري شيئاً يُطعم زوجته، فأعجبه منظر التين الأحمر، وهو مرتبٌ على شكل هرم في صناديق البوليسترين الصغيرة، فطلب من البائع واحداً من هذه الصناديق، فأخذه مقابل (4.06) دينار، ثم قاد سيارته وانطلق.
كانت ماريا معلمة للحساب في إحدى مدارس لوس أنجليس. وأثناء الرحلة إلى عمان، أرادت معرفة عدد حبات التين التي اشتراها زوجها، فوجدتها (28) حبة، معظمها صغير الحجم غير ناضجة، وهي مخبأة تحت الطبقة الأولى، ولم يتمكن هو أو زوجته إلا أكل عشر حبات منها.
أنتهت رحلة فرناندو بعد أسبوع على حادث الوقوع في الحفرة. وفي طريقنا إلى المطار قال لي ... ياصديقي ليس هناك أمل ...
قلت مماذا يافريناندو ؟
قال ... أرض الأنبياء أصبحت مرتعاً للجهلة واللصوص ... طبيبٌ قد يسرق حياتك من أجل المال ... وفخ يُنصَبُ لك في منتصف الطريق ... وضعوا لك علامة التنبيه من الخطر داخله ... وقد جعل الرجل، الذي أصلح السيارة، من نفسه مهندساً أكثر براعة وفهماً من صانعي السيارات في أمريكا أو اليابان ... وأكلت تيناً، وهو أكل الفقراء ... كلفتني حبة التين الواحدة مايزيد على نصف دولار !!! . ألم تقل لي ياصديقي بأن هناك مايزيد على مئة ألف إنسان في بلادك، وهي بلاد الأنبياء، يعيش الواحد منهم على أقل من دولارٍ واحدٍ في اليوم ؟ هل هذا يعني بأن هناك إنساناً عندكم يساوي أقل من حبتين من التين ؟ ...
لم يخطر ببالي قط بأن فرناندو قد قطع البحور السبعة كي يُعلمني عن مستوى البؤس الذي تعيشه فئة من سكان بلاد الأنبياء... فالويل لنا ...
 


ليست هناك تعليقات: