السبت، سبتمبر 29، 2012

ملامح المرحلة المقبلة (1)

د.عبدالرزاق بني هاني
يقيني لم يتبدل منذ أن وعيت، فهو راسخ كالجبال الرواسي، التي جعلها الله أوتاد الأرض، بأن كل المصائب التي حلت بنا، وتحل بنا، ماهي إلا نتاجٌ طبيعي - يقيني لموضوع الساعة، لأنه كان موضوع الساعة الماضية بامتياز. ولأن النتائج، دائماً، محكومة بالمقدمات، فإن الفساد والسكوت عنه لم يأت لنا إلا بالكوارث والتعاسة والبؤس والحرمان.
ونحن إذ نجترُ هذا الحمل الثقيل منذ زمنٍ ليس بالقريب، ونعيش في ظله المقيت، فإن نفسي تحدثني، وتؤكد مايتوارد لي من معلوماتٍ يقينية، وتحليلات عميقة، بإننا لن نتخلص من الفساد وطغمة الفاسدين بسهولةٍ ويسر، بل لابد من معاناةٍ قاسية، واشتداد الظلم والظلام، وتعسف الأرعن من أصحاب الشأن. فلم يعد هناك من يمتلك حكمةً يرى من خلالها الخطر المُحدّق بنا جميعاً، حكام ومحكومين. وكأن من بيدهم الأمر لايقرأون التاريخ، ولايتعضون من محن الآخرين. لأن الفاسد بطبعه لايستحي من الحق، وقد طبع الله على قلبه، فهو لايرى النور، بل يرى بالباطل خلاصاً ومن أمثال هؤلاء من خرج ليقول لنا بأننا في الأردن لسنا في حاجة إلى إصلاح، بل في حاجة إلى تنمية اقتصادية فقط. فهو لايرى في الناس إلا بهائم رتع، لايهمها في هذه الدنيا إلا الأكل والشراب والملذات كما الأنعام والبهائم. وهو نفسه الذي قال بأن الانتخابات ستجري بمن حضر، فهو لاينظر إلى الناس إلا بعين الاحتقار والإزدراء، ويرى في نفسه أنه أرقى منهم حسباً ونسباً، وهو صاحب الحق الإلهي في التكبر على الناس. وهكذا كان فرعون، وكان كثيراً ممن توهموا بأنهم خالدون، وأن عامة الناس عبيدٌ ترضى بلقمة العيش بديلاً عن الكرامة والكبرياء. وقد صدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: السعيد من اتعض بغيره، والتعيس من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
لقد ابتلانا الله سبحانه وتعالى، على مدار الأعوام الثلاثة عشر المنصرمة بصعودٍ حادٍ لمنحنى الفساد، بشكلٍ غير مسبوق، فاستقوى الفاسدون من كل لون على نحوٍ غير مألوف. ولم نكتف بالفاسدين المحليين، بل استوردنا فاسدين من انتاج بيوت الهوى في واشنطن كي يبتكروا لنا أساليب إفسادٍ لم نعهدها من قبل: كيف نخرب النظام الاقتصادي، كي نفسد النظام السياسي، كيف ندمر النظام الاجتماعي، ونزوّر النظام التشريعي، ونُسطِّح النظام التربوي والتعليمي ونتفههُ حتى يغدو ملهاة تفسد الأجيال. وبالملخص كيف نفسد السلطة ونفسد المثتَسَلِط عليهم، وهم عامة الناس، وكيف نركّع الدولة حتى تمضي باستحقاقات خطيرة، تكون آثارها مدمرة لمستقبنا. ولو طرحنا عطاءاً دولياً لتعيين أفسد الفاسدين كي يخربوا حياتنا في جميع أبعادها لما عثرنا على شَبَهٍ لعصابة الفاسدين الذي عاثوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد. ولكن الأخطر من ذلك كله هو إني أرى جيلاً كاملاً قد أصبح نتاجاً مشوهاً، واقعياً، لثقافةٍ تؤسس للفساد وتصنعه، وترسخه وتقويه.
 هذه الثقافة أْلِفها الناس حتى أصبحت حياة مُعاشة يتكيفون معها لأسباب عديدة، وأستمرأها البعض فأصبحت لهم عُرفاً وقانوناً يدافعون عنه، ولايستطيعون العيش بدونه، وأكبر مثالٍ على ذلك ما قام به عددٌ من النواب وأعوانهم من شياطين الإنس والجن ووزراء الغفلة في تقنين الفساد وشرعنته، وهي سابقةٌ قد تستحق لعنة الله على من بادر بها وأيدها، أنى كان مصداقاً لقوله تعالى " ... ولذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ، أو فسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً ... "
تحتدم الآن المعركة بين الحق والباطل، والناهب والمنهوب، وأصحاب السلطة الفاسدة والمواطن المغلوب، وموالاة مزورة قبلت بالفساد منهج حياة ومصيراً  ومعارضة حقيقية ... بين فسادٍ يستشري وإصلاحٍ واجب، بين خلطاء الظلم والظلام والمدافعين عن العدل والنور، بين أصحاب المشروع الوطني - النهضوي الذي يجعل من  الوطن قلعة منيعة في وجه كل آثم أو معتدٍ وبين من يخططون في الليل والنهار كي يجعلوا من هذا البلد الطيب قاعدة للخبث ومنطلقاً للرذيلة وتبعاً لأبناء القردة والخنازير.
وحيث أن الحقَ والباطلَ بيّنان كما الشمس في واضحة النهار ... فلابد للواحد منا أن يختار بإرادته الحرة، وملىء فيه، تحت أي لواءٍ ينضوي ومع من يقاتل: في صف الرحمن أم في صف الشيطان، في صف الفساد أم في صف المفسدين، مع فئة الظالمين المنحرفين الضالين، الذين تربوا وترعرعوا في بيوت بنات الهوى، أم مع فئة المظلومين المحرومين والمُصلحين ؟ فطوبى لمن يصلح ما أفسد الناس ...
تعيش دولتنا في الوقت الراهن أزمةً حقيقية، لاينكرها إلا ضال، ملخصها أن القائمين على الأمر يتمسكون بواقعٍ مريرٍ فاسد، دون محاولة جادة، مهما كانت، لتغيير هذا الواقع السيء، إلا تجميلاً في الشكل، ... كي يضللوا البسطاء والجهلة، لكنهم يمعنون في اغتيال العقل، وتقبيح الجوهر إلى ما هو أقبح منه. ويخطط هؤلاء كي يديموا حلقة الخبث، ودائرة الفساد المحيطة التي أسسوا لها منذ عقود، وبفعلها أصبحوا أثرياء وأصحاب سلطة غير شرعية، ظلموا من خلالها الناس،وتعسفوا في قراراتهم وأنتجوا ثقافة مسخ لايعرف فيها المواطن إلا نفسه وليس لديه قاموس أخلاق يهتدي به أو عرفاً جميلاً يتمسك به. وها نحن مقبلون على مرحلة فسادٍ جديدة، يشتد فيها الفساد أكثر مما كان في الماضي، ويتعسف فيها الظالمون بشكل أشد، يصبح خلالها الأولاد، الذين يفتقرون للحكمة والوطنية، أسياداً على العباد، ولايعرفون تدبر شؤون الحياة إلا بالفساد والإفساد وتتبع الشهوات الدنيئة ...
خلال الخمسة والثلاثين شهراً الماضية ... قامت مجموعة من الأساتذة الجامعيين، وكنت منهم، باستطلاع آراء أكثر من عشرين ألف مواطن حول الواقع المعاش، شملت هذه العينة الدراسية طلاباً وأساتذة جامعات ومعلمي مدارس خاصة وعامة وموظفين من القطاعين الخاص والعام، ونواب وأعيان، وتجار وحرفيين من شتى الأصناف والمهن، وغطت العينة كل المحافظات، والفئات العمرية (60) سنة أو أقل، وهم يمثلون أكثر من 90% من مجموع السكان. وكانت طريقة الإستطلاع ما يسمى (casual poll) أي الاستطلاع غير الرسمي جاء في نقاشات منهجية ... وجاءت الأسئلة الموجهة للمستطلعين على عدة طبقات حول القضايا الاقتصادية، والسياسية، والثقافية – الاجتماعية ...
وقد شدتني نتائج الاستطلاع بشكل لافت. وهاكم بعض النتائج التي توصلنا إليها :
-       الرضى عن رؤساء الوزارات خلال الثلاثة عشر عاماً الماضية 2%.
-       الرضى عن الوزراء، بشكلٍ عام، 1%.
-       الرضى عن سياسات الحكومة وجهودها في تحسين مستوى المعيشة 5%.
-       الرضى عن أداء مجالس النواب 1%.
-       الرضى عن النواب، بشكل عام، 2%.
-       الرضى عن سياسات التربية والتعليم 1%.
-       الرضى عن السياسات الخارجية 0%.
-       الرضى عن سياسات مكافحة الفساد 0%.
-       الرضى عن القوانين والتشريعات الناظمة للحياة العامة 1%.
-       الرضى عن السياسات الداعمة للوحدة الوطنية 10%.
-       الرضى عن سياسات التعليم العالي 3%.
-      الإحساس بالعدل 3%.
-       الإحساس بالظلم 97%.
-       الإحساس بالضعف والاحباط 95%.
-       مصداقية الديموقراطية 2%.
-      الإحساس بالأمن 90%.
-       الأمل بالمستقبل 5%.
-       الإحساس بالأمن الاجتماعي 10%. (عادات وتقاليد داعمة للأمن الاجتماعي).
-       الإحساس بالسلام الاجتماعي 2%.
-       الإحساس بالتفكك الاجتماعي 85%.
-       التوجه نحو المجهول 95%.
-       الإحساس بالعنف المجتمعي 97%.
-       الإحساس بفساد المسؤول 93%.
-       الاستعداد لممارسة العنف 90%.
-       الشعور بهشاشة النظام العام 98%.
-       الشعور بهشاشة النظام الاقتصادي 95%.
-       الشعور بتفاقم الجريمة على نحوٍ ملحوظ جداً 100%.
تشير الاحصائيات الرسمية إلى واقعة الجريمة، بشكليها: الجناية والجنحة. وتستثني جرائم الفساد التي لايعلمها إلا الله والضالعون في الفساد، وتستثني أيضاً الجرائم التي لم يُبلغ عنها.
الجرائم حسب نوعها خلال الفترة 2006 - 2010
السنة
الجريمة   
2006
2007
2008
2009
2010
الجنايات
7114
8099
7997
8327
9569
الجنح
31994
34897
36725
38393
43794
المجموع
39108
42996
44772
46720
53362
بحساب بسيط نحصل على نمو الجريمة بنسبة 8% سنوياً، وهي أكثر من نسبة نمو السكان بمعدل يفوق 5%. وبحساب بسيط أيضاً نجد أن حجم الجريمة يتزايد بنسبة 100% كل 8 سنوات و 11 شهر، إذا بقيت الأمور على ماهي عليه. أما عدد السكان فإنه يتضاعف كل 25 سنة. وحيث أن السلطة متفرغة بالكامل لقمع المعارضة السياسية السلمية، فإن الجريمة تتفاقم مثل الخلايا السرطانية، بهدؤ، دون أن يتصدى لها أحد إلا على استحياء. وسيكون نصيب الأسرة من الجريمة حدثاً يقينياً، في المستقبل القريب، إلا إذا تغمدنا الله سبحانه وتعالى برحمته ومعافاته ...
لو جاز لي أن أطرح سؤالاً: ماهي ملامح المرحلة المقبلة ؟
1-  دعوني أبدأ بمجلس النواب القادم ... ويؤسفني القول بأنني متشائم جداً مهما حاول أصحاب السلطة الراهنة بأن يخلعوا عليه من صفات وهمية كالنزاهة والمصداقية والتمثيل الفعلي للسكان والهيبة والوقار على بعض منتسبيه، إلا أنه سيبقى فارغاً إلا من مضمون واحد وهو الدفاع عن الفاسدين والمفسدين. وبظني العلمي سيكون المجلس القادم نسخة أسوأ من النسخة الراهنة، والنسخ القديمة، السيئة بامتياز. سيُشرّع المجلس القادم قوانين فاسدة لحماية الذين جاؤوا بهم إلى مجلس التشريع. والآن يقوم بعضٌ ممن أصبحوا وزراء على غفلةٍ منا جميعاً بتجميع قوى الشر حولهم، ويعقدوا التحالفات لإيصال أزلامهم إلى البرلمان. وحسب علمي بأن هناك مجموعتين وضعتا الخطة اللازمة لترشيح بعض الفاسدين من أمثالهم كي يخوضوا الانتخابات القادمة: واحدة تحت إمرة البهلوان، والثانية تحت إمرة أحد وزراء المالية السابقين، وهو فاسد وأثرى على حساب المال العام. والمخفي أعظم ...
2-  بالنسبة للوضع الاقتصادي ... تقول القراءات التحليلية بأن الوضع الاقتصادي العالمي لن يتمكن من بدأ العودة في رحلة الصعود إلا بعد العام 2015 – 2018، ... واقتصادنا جزء من الاقتصاد العالمي، نتأثر به ولا نؤثر به. ستتفاقم مشاكل المديونية وعجز الموازنة، وعجز ميزان المدفوعات. نحن الآن نتحدث عن أكثر من 19.5 مليار دولار مديونية عامة ... و 3 مليار دولار عجز في الموازنة العامة ... وأكثر من 8.4 مليار دولار تقريباً عجز في ميزان المدفوعات ... محسوبة على أساس 100 دولار لبرميل النفط ... وإذا حدثت حرب في منطقة الخليج العربي، وأغلق مضيق هرمز فإن برميل النفط سيرتفع إلى 150 دولاراً للبرميل الواحد، ويرتفع عجز ميزان المدفوعات إلى ما يزيد عن 9.8 مليار دولار، مع ما يرافق ذلك من هبوط في الاحتياطي من العملات الصعبة، وتأثر القوة الشرائية للعملة المحلية، وأثر ذلك على الفقراء.
 أذكر هنا بأن الاحصائيات الرسمية تشير إلى أن العجز في الميزان التجاري تزايد خلال الفترة 1990 – 2010 بأكثر من 9% سنوياً، مما يعني أنه يتضاعف خلال مدة أقل من ثمان سنوات.
3-  تقول التقارير غير الرسمية الأكثر صدقاً من التقارير الرسمية بأن البطالة العمالية وصلت إلى 30% من حجم القوى القادرة على العمل.
4-  تقول التقارير غير الرسمية الأكثر صدقاً من التقارير الرسمية بأن نسبة الفقر المطلق (أكل شرب نام ... ولا تقدم في الحياة) فاقت كل التوقعات، وهي أكثر من 25% من مجموع السكان. وهناك أكثر من 100 ألف إنسان يعيش الواحد منهم على أقل من (71) قرش يومياً ... (على أساس أن الدولار = 0.71 دينار)
5- تقول التقارير الرسمية بأن مستورداتنا من الغذاء تزايدت بنسبة فاقت 13.5% سنوياً خلال السنوات 2006 – 2010، مما يعني بأن حاجتنا إلى الغذاء المستورد تتضاعف كل 5 سنوات ...
6-  تقول التقارير الدولية بإنه لم تكن هناك أية جامعة عربية من الـ 500 جامعة الأولى في العالم.
إن التعليم العالي في البلاد جزء من المنظومة الفكرية – الثقافية – التعليمية، ويتراجع مثلما يتراجع الإصلاح نفسه. ورغم كل التجميل الظاهري الذي تقوم به الدوائر المعنية ... إلا أن السوية الأكاديمية – الفكرية - البحثية للطالب الجامعي تراجعت منذ بداية العقد الماضي، وإلى هذه اللحظة. وما زال التراجع مستمراً وسيبقى إلى ردحٍ من الزمن لأن تعيين الأستاذ الجامعي لايكون إلا بالواسطة والمحسوبية، وحجم المنافسة الحقيقية على مقاعد التعليم العالي متدنية جداً.
7-  حصل تلميذنا على آخر مرتبة في الرياضيات والفيزياء والعلوم العامة من بين 45 دولة تقدم طلبتها لأمتحان دولي ...
إن المستقبل... إذا بقيت الأمور على ما كانت عليه في الماضي القريب وماهي عليه الآن لايبشرُ أبداً إلا بمزيدٍ من الفاقة والبؤس والحرمان والتمرد والعنف واستقواء الفاسد على الصالح وصاحب السلطة على المحكوم. وكل ذلك بسبب الفساد الفكري والإداري والمالي الذي مارسه الفاسدون وأصحاب السلطة الفاسدة.
إزاء هذه الصورة المظلمة ... ماهو الحل ؟ ...
لقد دعوت قائد البلاد، في أكثر من مناسبة، أن يعلن ثورة من أي لون شاء ... يطيح من خلالها بالفاسدين مهما كانوا وحيثما كانوا، وخاصة أولئك الذي نهبوا البلاد وما زالوا يتبجحون بالشرف كذباً واستهتاراً بمن يطالب بالإصلاح ...
أطالب قائد البلاد بأن يقود بنفسه لواء الإصلاح، ولاضير في ذلك، وأن لايستمع إلى أصحاب الهوى من المغرضين الذي يجمّلون الحال على عكس حقيقتها ...
وانطلاقاً من خوفي وحبي لبلدي ... فإني أدعو قائد البلاد للمرة العاشرة بعد المئة ليعلن ثورته على كل هذه الوضع السيء، وأن يطيح بالفاسدين مهما كانوا، وأن يبادر بالإصلاح الذي إن أهملناه وتجاهلناه  فإنه سيأتي بالدم لاقدر الله ... والمطلوب منا جميعاً أن نتكاتف وأن نتجمع حول بعضنا البعض لأن الهجمة قادمة. فالفاسدون يواصلون الليل بالنهار كي يطيحوا بنا جميعاً ويبقوا في المواقع التي تمكنهم من ادامة الفساد بشتى أنواعه. والأولى بنا نحن، من نزعم بأننا أصحاب حق، أن نتآلف ونتجمع حول بعضنا بعضاً، ونكون سداً منيعاً في وجه هذه الطغمة الفاسدة ... وحسبنا الله في الدينا والآخرة ...
16/08/2012
 


[1] -  في الأصل كانت محاضرة ألقيت في مقر حزب جبهة العمل الإسلامي – مادبا، 15/08/2012


ليست هناك تعليقات: