لن أدعي معرفة بهذا الموضوع بالعمق الذي وصل إليه المفكر العربي عبدالرحمن الكواكبي عند مطلع القرن الماضي. ما سأحاوله هو بعض الاضاءات من هنا وهناك من اجل مزيدٍ من التوضيح حول الأمر.
دعني أعرّفُ (التغيير والتطور) في هذه المقالة كظاهرة واحدة، مُركبة بداخلها من عناصر عديدة، يأتي في مقدمتها: الحرية، والإرادة، والفعل. وأعرّف (الجمود والتخلف) كظاهرة واحدة، مركبة بداخلها من عناصر عديدة يأتي في مقدمتها: الاستبداد، وقبول الخنوع، وحب الرتع.
سأقوم بشرح شيءٍ من كل ذلك في السطور القادمة، لكنني أود بداية أن أذكّر بأن ظاهرة (التغيير والتطور) هي سُنّة من سُنن الحياة القويمة، وقوانينها اليقينية الراسخة، والتي لا يعترف بها إلا كلُ ذي لب حصيف. وليس هناك عاطفة أخطر على العقل وتعملُ على سلب قواه الابداعية من عاطفة الخوف من (التغيير والتطور).
إن السلطة، ورعاياها بشكلٍ عام، يخافون من (التغيير والتطور). وتكاد هذه المقولة أن تكون بدهية أكيدة لسببين: أولهما أن في السلطةِ إغواء، وثانيهما أن عامة الناس جاهلون، وليسوا واعين بذاتهم الجمعية.
وعندما يعتادُ الإنسانُ على شيءٍ فإنه يألفه، وعندما يألفهُ يطمئنُ إليه، وإذا اطمأن له تمسك به وجعلهُ جزءاً من نفسهِ وحياته. وهي أسوأ حالةٍ يعيشها الإنسان، وقد يموت عليها. وتعريف الإنسان في هذا السياق هو الفرد أو الجماعة، لافرق بينهما. وليس هناك ما هو أقبح في نظري من انسانٍ مرعوب، لأن الرعبَ يُكبلُ العقلَ والسواعد والأرجل عن الابداع، وتغدو الحياة بسبب ذلك وكأنها طاحونة المجانين، التي لايحركها إلا رب العالمين.
ما هو الرعب في هذا السياق؟ سؤالٌ يطرحُ نفسه بقوة !
الرعبُ من وجهة نظري هو الخوف من المجهول ... الخوف من المستقبل وعلى الرزق والعيال والحياة والعمر والأسعار والقوت والوظيفة والمتع الآنية ... وما شابه. ويكون لسان حال الفرد أو الجماعة في هذه الحالة: عصفور في اليد خيرٌ من عشرةٍ على الشجرة ... أو اعطنِ لقمة الآن ولا تعدني بصاع في المستقبل، فالإنسان بطبعه يحب الحاضر أكثر من المستقبل، ويحب الركون إلى الأمر الواقع أكثر من المغامرة، وخاصة في ظل ثقافةٍ فاسدة تحمل عنواناً مُخضِعاً وخنوعاً هو ... الحيط ... الحيط ويارب الستيرة، والحيط هنا باللهجة العامية هو الجدار . والمعنى معروف، وهو التشجيع على ثقافة الخنوع وقبول الأمر الواقع. وفي الاسلام كما في المسيحية، أعتُبر الخوف على أي من تلك الأشياء شركٌ بالله، لأن المستقبل الذي نحن فيه فاعلون هو من صنع الله وحده. وكذلك الرزق والعمر والأسعار والقوت والوظيفة ... إلخ، كلها بيد الله وحده ... نحن نعمل والله يخلق ... نحن نجتهد والله يحقق ... ونحن نخطط والله ينفذ، وبالتالي فإن الرعبَ من التغيير خوفاً من المصير هو ضربٌ من ضروب الكفر، أو شكلٌ من اشكال البهائمية التي لا تليق بإنسانٍ حرٍ، وهبه الله عقلاً كي يفكر به، وإرادة يتحرك من خلالها، وفعلٍ به يُنتج الأشياء من حوله. فمن لايعمل لايوجد، أي أنه غير موجود.
إن أرقى وأغلى أنواع الحرية هي التحرر من شهوات النفس البهائمية. وهناك فرقٌ كبيرٌ بين التحرر الذي يجعل للإنسان قيمة إنسانية محضة، والتحرر الذي يُدخله في دائرة الكائن الحي الذي لايجيد في حياته إلا الرتع والتناسل.
تأتي حرية الكلمة والخطابة والتعبير عند درجةٍ أقل من حرية الإنسان الخالصة، والتي يتوجها التوحيد والخضوع لله وحده.
ينبغي، في إطار حرية الكلمة والتعبير، أن لايقوم من بيده السلطة بأي فعلٍ ملموسٍ، أو قولٍ مسموع، من شأنه أن يُضيّق على الناس أو يؤاخذهم على الكلام الذي يصدرُ عنهم مهما كان هذا الكلام، إلا إذا كان تهديداً مباشراً لحياة الفرد أو الجماعة. فقد ولِدَ الإنسانُ حراً، طليق العقل واللسان، وليس أبكماً غير عاقلٍ كالبهائم. ولاينبغي تحت أي ظرفٍ من الظروف أن يُعاقب هذا الإنسان على نعمة أودعها الله فيه، أي يُعاقبْ لأنه إنسان ! كيف يُعاقب الإنسان على عقله وحريته المصونة من خالقه، ويعاقب على إرادته إذا لم تتعارض مع وجوده بما هو إنسان ؟!
لقد كرم اللهُ الإنسان بعقله وإرادته الخيرة. ولو أراد عكس ذلك لخلقه على هيئةٍ ترتع كما ترتع البهائم والوحوش، ولأسقط عنه مبدأ التكليف في إقامة حكم العدل والحق والقانون. فالحرية هي نوعٌ من عبادة الله على أرضه، وتكريمٌ للإنسان في نفسه. وإن أقبح أنواع الاستبداد يكمن في محاربة العقل ومخرجاته الخيرة، ومصادرة حريته، لأن بمقدور العقل أن يستوعب الكون كله، فكيف به إذا كُبلت قواه وكُبت ؟
يتضمن المبدأ الأول لحرية العقل أن يفكر الإنسان بما يحب، وأن يقول ما يفكر به. وقد أثبتت التجارب في التاريخ الإنساني الطويل أن الموت كان أرق وأهون على الإنسانِ من الاستبداد وكبت الحريات. كما أثبتت التجارب بأن الرعايا الذين يقبلون بالاستبداد طريقاً لحياتهم لايمكن اعفائهم من تبعات نظام الاستبداد وجرائمه، مهما كانت اعذار هؤلاء الرعايا، لأن المسؤولية الاجتماعية عملية مشتركة بين أفراد المجتمع كلهم، وليس بين من يتمتعون بالسلطة، خاصة إذا كانت السلطة غير شرعية، فالاستبداد يعني بالضرورة انتفاء الشرعية عن السلطة. وقد قال أحدهم أنه (... طالما أن الناس يعبدون القيصر ونابليون، فإن القيصر ونابليون سيُبعثان كي يجعلا حياة هؤلاء العُباد الراتعين أكثرُ بؤساً وإذلالاً. ومن اجل ذلك كله فإن مناهضة القمع والاستبداد هي عبادة من الإنسان لله وحده. وهي عبادة يباهي بها الله مخلوقاته الأخرى، لأن هذه المناهضة تحتاجُ إلى حريةٍ وإرادةٍ وفعل، وهي ذات العناصر الضرورية (للتغيير والتطور)، وبنفس الوقت هي عوامل تفتقر إليها الكائنات الأخرى، حتى وإن كانت ملائكة.
إن العقلَ المرعوب هو عقلٌ مخرب بطبيعته، خانعٌ بتركيبته، وراتعٌ بشهواته.
كيف يمكننا أن نستوعب هذه الحالة المرعبة ؟
عندما يكون العقل مرعوباً فإنه يخاف من التغيير والتطور، وبالتالي فإن ميله يكون نحو الجمود والتراجع. ولأن مواقع الأمم نسبية، فإن الثبات يغدو تراجعاً. أما العقل الخانع فهو الذي يُمجّد السلطة ويقدسها ويضفي عليها هالة غامضة بسبب الألفة والطمأنينة الزائفة. والعقل الراتع هو الذي لايرى في الحياة إلا سلطة الشهوة والملذة، اي الانغماس في فلسفة السعادة (hedonism)، وذلك باعتبار أن الحياة ليست مسؤولية وأن الانسان هو خليفة الله في أرضه، بل مجرد مخلوقٍ وجدَ بالصدفة، وعليه أن يقضي حياته كيفما اتفق كما تقضيها بقية البهائم والوحوش، متصارعاً مع نفسه على الموارد المتاحة.
يكمن الفرق بين هذين النمطين من العقل في أن العقل الحر هو الذي وضع صاحبه على القمر وأوصله كوكب الزهرة، في حين أن العقل المرعوب هو الذي أبقى صاحبه في غياهب الجب والكهف والظلام.
إن معرفة الأمراض النفسية التي سببها لنا الاستبداد هو نصف العلاج الذي نحتاجه حتى نصبح أكثر انسانية مما نحن عليه الآن. ولا ينبغي أن نشرع بمحاورة الشيطان حول قضايانا وحاجاتنا لأن الشيطان يُصرُ على قول الكلمة الأخيرة حول مشروعنا لبناء دولة قويمة، سليمة ومعافاة من كل الشرور التي ابتدعها الفاسدون من الأعلاميين والسياسيين ورجال الدولة، في زمن الغفلة الذي مضى، واملي أن يكون قد مضى فعلاً إلى غير رجعة. فإذا وجدت الإرادة والحكمة فإن المخرج من المأزق الذي نعيش يصبح واضح المعالم.
إن التغيير والتطور هما قرارٌ واحد يتخذه المجتمع القويم، ليس من خلال سلطة النصوص والأوامر، بل من جوانية الحاجة إلى الرقي الطبيعي، الذي هو سمة في المخلوقات، وعلى رأسها الإنسان الذي نقول عنه أنه هو الأغلى والأثمن. ولأن الإرادة والحكمة هما من صفات القيادة العظيمة، فأنا لا أراهن إلا على عزيمة أهلنا ونقاء سريرتهم، وعلى ادراك قيادتنا بأن التغيير أصبح واجباً وليس من قبيل الترف الفكري، أو الاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق