حدثني صديقٌ أمريكي في ذات يوم قصة، حسبتها عندما انتهى منها أنها نكتة للترفيه. لكن، ولعلمي بجديته، والاسقاطات السياسية التي ذكرها عن الدكتاتور البنمي إمانويل نورياغا، فقد أيقنت بعدها أنه قصد شيئاً آخر يخصنا نحن العرب.
قال لي: ... بأن راصد الأحوال الجوية، في إحدى البلدات الأمريكية، قد أعلن عبر وسائل الاعلام عن قدوم إعصارٍ شديد، ومصحوب بريحٍ عنيفة، وأن معدل سقوط الأمطار سيكون كبيراً. وقد يؤدي إلى غرق البلدة. فقامت السلطات بالاجراءات المطلوبة، ونصحت الرعايا بترك المدينة إلى المناطق المرتفعة، أو إلى البلدات المجاورة، بسبب ما قد يواجهونه من مخاطر الغرق والموت من الرياح الشديدة...
بادر أهلُ البلدةِ بالمغادرة تدريجياً منذ ساعات الصباح الباكر. وقد طاف رجالُ الشرطة شوارع البلدة كي يحثوا السكان على مغادرتها قبل قدوم الطوفان. فاستجاب الأهالي كلهم لنداء الشرطة، ماعدا قسيس الكنيسة الوحيدة الموجودة في البلدة. فعندما جاء رجال الشرطة مترجلين إلى الكنيسة كي يساعدوا القسيس، كان جوابه لهم (... لاعليكم يا أبنائي ... لاعليكم ... سيساعدني الرب ... لاعليكم ...).
بعد ساعات قليلة بدأ المطرُ بالهطول الخفيف، فأخذ ما تبقى من الناس بجمع اشيائهم استعداداً للرحيل، فعاد رجال الشرطة إلى القسيس، وقالوا ( ... يا أبانا إن المطر سيشتد بعد حين ... لِما لا تركب مع الناس في الحافلة ... وسنقوم بإيصالكم جميعاً إلى مكان آمن ... هيا يا أبانا اركب ...)، فأجابهم ( ... لاعليكم يا أبنائي ... لاعليكم ... سينقذني الرب ... لاعليكم ...).
أخذ المطرُ يشتدُ أكثر وأكثر، وجرت الشوارع بالماء الغامر، حتى وصل ارتفاعه إلى دواليب السيارات، فرجع رجال الشرطة إلى الكنيسة وعرضوا على القسيس المساعدة للنجاة من الطوفان القادم والركوب معهم بسيارة الشرطة. فكان جوابه ( ... لاعليكم يا أبنائي ... لاعليكم ... سينقذني الرب ... لاعليكم ...).
بعد ساعة اشتد المطر، وتحوّل الطقس من حالةٍ ماطرة إلى عاصفةٍ هوجاء، فاضطر ما تبقى من السكان إلى الهرب على ما توفر من قوارب. فعاد رجال الشرطة على متن قارب إلى القسيس، ونادوا بأعلى صوت ( ... يا أبانا إن الحالة قد تحولت إلى عاصفة ... هيا أركب معنا في القارب حتى تنجى يا أبانا ... هيا ... نرجوك يا أبانا ...)، لكن القسيس أصر على جوابه الأول وصاح بهم (... لاعليكم يا أبنائي ... لاعليكم ... سينقذني ربي ... لاعليكم ...).
اشتدت الريح، وقويت بما لم تكن عليه من قبل، ووصل الماء إلى مستويات مرتفعة وغمر المنازل الصغيرة. فعاد رجال الشرطة على متن طوافة طائرة (هيلوكبتر)، وحلقوا فوق الكنسية، حيث كان يختبىء القسيس، وصاحوا مستخدمين مكبرات الصوت ( ... يا أبانا ... ها قد أنزلنا إليك الحبل وطوق النجاة ... هيا أمسك بهما حتى تنجى ... أمسك بهما كي نسحبك إلى الطوافة ... هيا يا أبانا ... هيا ...). فكان رد القسيس بصوت متهافت ( ... لا ... لا ... لا ... عليك ككككو ... كوم ... يا أبنائي ... لاعليكم ... سينقذني الرب ... لا ... لا ... لا ...عليك ككككو كوم ...).
في تلك اللحظة وصل الاعصار المدمر، وحطم الكنيسة وجرف من بها وما عليها، وجرف الماء المنهمر، والمتدفق في شوارع البلدة، كل شيءٍ وقف في طريقه، ومنهم القسيس الذي مات غرقاً. واضطر رجال الشرطة أن يهربوا بحياتهم من تهديد الطوفان الجارف.
بُعث القسيس يوم القيامة من بين الأنقاذ التي تراكمت عليه بسبب الطوفان، وذهب إلى الرب معاتباً ( ... لِمَ لم تنقذني يا رب من الطوفان الذي دمر كنيستك التي كنت أرعاها عنك ... وكنت قد عوّلت عليك ؟ ...).
رد عليه الرب ( ... لقد أرسلتُ لك الشرطة وهم راجلون كي ترحل على متن الحافلة ... ولم تستجب ... وأرسلتهم مرة ثانية مع سيارة كي تركب معهم ... ولم تستجب ... ثم أرسلتهم على متن قارب كي تجدّف معهم لتصلوا إلى مكانٍ آمن ... لكنك لم تستجب ... وأخيراً بعثتهم إليك على متن طوافة طائرة ... ومدوا إليك حبلاً وطوق نجاة ... لكنك أبيت واستكبرت عليهم ... ولم تستجب لكل نداءات الإغاثة ... أيها القسيس ... أنت لم تستحق النجاة في الدنيا ... ولاتستحق الآن إلا نار جهنم ...).
عندما انتهى صديقي من الحديث ضحكت على سذاجة القسيس، فركلني برجله وقال لِمَ لاتبكي على حالكم أيها العربي ؟ فكل القرائن تشير إلى أن الطوفان الجارف قادمٌ إلى دياركم، فكونوا على استعدادٍ لاستقباله، وأرجو أن تكون السلطات عندكم مستعدة له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق