شيخ البحارة هو الشخص الذي لديه خبرة طويلة في تهريب البضائع عبر الحدود.
أخبرني شيخ ٌ من شيوخ هذه الطريقة، وكانت كنيته ' دحام شيخ البحارة '، أن جماعة من الشباب قد أتته طالبة مساعدته في تعلم مهنة التهريب. وهي مهنة كانت تُدرُ عائداً مجزياً على من يمارسها بإتقان.
وافق الشيخُ على الطلب، لقاء نسبةٍ من الأرباح التي يحققونها. وبعد عدة أيام بدأ بإعطائهم دروساً عملية في كيفية تحميل البغال بالأشياء المُراد تهريبها، كالسكر والبرغل وعلب مناديل الورق الناعم، وما شابه. ودربهم على الإشارات والترميزات الضرورية لعملية التهريب، وطرق النجاة والتورية والمواربة، واختيار الطرق والممرات الآمنة عبر الحدود، وكيف يبيعون البضائع المهربة، ولمن يبيعونها بالأسعار المناسبة.
بعد أن تأكد الشيخ واطمأن لتلاميذه، وشعر بأنهم استوعبوا الدروس والعبر، وفهموا معاني الإشارات والترميزات الهامة، قام والقى بهم خطبة عصماء، جاء فيها ' ... يا أبنائي ... إن هذه المهنة التي ورثناها كابراً عن كابر ... من آبائنا وأجدادنا ... لابد أن نحافظ عليها بالتعاون والتسامح بيننا ... وندافع عنها بكل ما أوتينا من قوة ومعرفة... فهي، بإذن الله، مصدر رزقنا، ومنبع كرامتنا، وهي التي تحمينا من بطش السلطة عندما لاتحتاج إلينا هذه السلطة ... وهي أساس استقلالنا عنها إذا أرادت هذه السلطة أن تبتزنا في لقمة العيش ... فحافظوا عليها، وعضوا عليها بالنواجذ ...'.
بدأ التلاميذ بأول عملية تهريب يقومون بها على أرض الواقع، فجهزوا البضائع وحمّلوها على ظهور البغال، وساروا في ذات ليلةٍ على الدرب الذي عينهُ شيخ البحارة.
ساروا بكل تؤدة وهدؤ. وما أن وصلوا إلى نقطةٍ قريبةٍ من الحدود حتى أخذ واحداً من البغال بالنهيق المزعج، والذي لفت أنظار رجال الجمارك إليهم. فأسرع رجال الجمارك كي يلقوا القبض عليهم، وأخذوا بإطلاق النار في الهواء لتخويفهم.
تفرق المهربون في اتجاهاتٍ مختلفة، وذلك حسب الخطة التي رسمها الشيخ لهم، وتركوا البضائع والبغال، وتمكنوا من العودة سالمين إلى البلدة. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي ذهب المهربون إلى الشيخ المعلم كي يشكوا له ما حصل معهم ولهم. فتفاجؤا بالبغال وهي واقفة بشكل منتظم أمام منزل الشيخ، وعليها البضائع لم يمسسها سؤ. لكن البغل الذي بادر بالنهيق في ليلة الأمس قد نأى بنفسه عن بقية البغال !
دق التلامذةُ باب الشيخ، فخرج عليهم فزِعاً، وسألهم عن الأمر. فقصّوا عليه ما حصل معهم في ليلة البارحة.
نظر الشيخ إلى البغال وإذ بها مصطفة، إلا واحداً منها، وهو البغل الذي وقف وحيداً، وبعيداً عن مجموعة البغال. وقد كان الشيخ ذكياً إلى حدٍ بعيد، وعرفَ بفطنتهِ وخبرتهِ الطويلة أن ذلك البغل لم يلق من الرعايةِ ما يكفي. فطلب من أحد تلاميذه أن يذهب إلى السوقِ لبتاع مُداً من الشعير وقليلاً من الدهن الذي تُشحمَ به السيارات. وبعد أن أحضر التلميذ الشعير والشحمة المطلوبة ، قام الشيخ وهمس في أذن البغل، ووضع الشعير أمامه، وشيئاً من الشحم على دُبُره. وما أن إنتهى البغل من أكل الشعير، حتى قام الشيخُ وقال لهم ' ... سيروا على بركة الله ... لقد شبع ... وتم تشحيمه ... '.
انطلق المهربون في نفس الليلة، وساروا على نفس الطريق، إلى أن وصلوا المكان الذي تفرقوا منه ليلة الأمس بعد مباغتة رجال الجمارك لهم. فوقف البغل مرة ثانية وأراد أن يطلق نهيقه المزعج كما فعل في الأمس، وحاول ثم حاول لكنه لم يتمكن من أن ' ينبس ببنت شفة '. وقد أدرك المهربون أن للشحمة سحراً عجيباً في كبح جماح النهيق من ذلك البغل الجامح.
اجتاز المهربون الحدود، وباعوا بضاعتهم، وربحوا ما ربحوا، وعادوا مع بغالهم إلى أهلهم سالمين ومسرورين. وقد ذهبت الحادثة مثلاً بين أهل البلدة يستخدمونه لوصف الإنسان المشاكس المعارض الذي يتم ترويضه بأبخس الأثمان، وعنوان ذلك المثل ' ... هل تم تشحيم البغل حتى يكف عن النهيق ؟! ...'.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق