أذكر، وعندما كنت صغيراً، أن مختار العشيرة في قرية قريبة من بلدتنا كان طويل القامة، أبيض الشعر، جميل الوجه، لكنه كان جاهلاً، ويفتقر إلى الشجاعة. وقد أحاط نفسه، وحسب وصف أهل القرية، بمجموعة من الشباب ' الزعران '، كي يقوموا على خدمته. وكان أهل القرية يسمونهم ' القطاريز '.
لا أعرف من أين أتت هذه التسمية، لكنني بحثت عن المعاني المقاربة لها في لسان العرب، فلم أجد أقرب من كلمةٍ مصدرها فعلٌ رباعي وهي ' القطربوس '. والقطربوس هو العقرب شديد اللدغ، أو الناقة السريعة. وفي كلا المعنيين رمزية عميقة، وربما قصد أهل القرية أن قطاريز المختار اشبه ما كانوا بالعقارب الغادرة، أو الإبلِ سريعة العدْوْ، التي يحتاجها الإنسان للترحال السريع أو نقل البضائع من مكانٍ إلى آخر بسرعة.
كان أهل القرية ينظرون إلى القطاريز بعين الريبة، والاحتقار في بعض الاحيان. لكنهم آثروا السكوت خشية من بطش المختار، الذي أذكر مرة ثانية أنه كان جاهلاً ويفتقر إلى الشجاعة ! وقد كانت القرية تتعرض، بين الفينة والأخرى، إلى غزو اللصوص وجناة الليل. وكان القطاريز يعرفون عن تحركات اللصوص ولا يلقون لها بالاً. وبدا لأهل القرية، ولو من باب الظن، وكأن القطاريز كانوا يتقاسمون مع اللصوص ما يتم سرقته من بيوت القرية.
بينت الوثائق، بعد عدة عقود، أن مختار العشيرة الجاهل، كان يتلهى مع القطاريز الستة في احتساء الخمر والمنادمة، ولعب الورق، ولعبة الفنجان، المعروفة عند قدماء الفلاحين، إضافة إلى أعمالٍ أخرى لم يكن من شأنها أن ترقى بالقرية وأهلها. ومن المفارقات اللافتة أن القطاريز الستة كانوا يحملون ألقاباً غريبة. ومن المحتمل أن أهل القرية (العشيرة) قد خلعوا عليهم تلك الألقاب عبر سنواتٍ من التجربة المريرة مع كل واحدٍ منهم. فقد أطلقوا على أنحلهم جسدأً لقب ' كريم الأهبل '، وعلى أقصرهم ' أبو رغال '، وعلى الكتوم منهم ' الخنزير '، وعلى أطولهم ' التيس الشايب '، وعلى المربوع ' سراق البطيخ '، وعلى آخرهم ' الأجرب '. أما المختار فقد كانوا يلقبونه ' أبو جهل '. ألقاب ومسميات غريبة، لكنها كانت شائعة في مجتمع الفلاحة، ودلت على بعض الصفات والتصرفات التي أنكرها ذلك المجتمع البسيط، وأشارت بدورها إلى قسوة التجربة التي مر بها أهل القرية. فتلك الألقاب تشي بالغباء والخيانة والقذارة والعناد واللصوصية والوساخة، وأخيراَ الجهل !!
شارك المختار وهؤلاء القطاريز بإقناع بعض الغرباء كي يأتوا إلى القرية من اجل شراء بعض قطع الأراضي من بعض العائلات التي تحتاج المال في تعليم ابنائها عند شيخ الكُتاب، ثم إرسالهم إلى دمشق أو القاهرة لإتمام تعليمهم الجامعي. وكان مدخل المختار وقطاريزه في إقناع أهل القرية بقبول الغرباء وبيعهم الأراضي أن تحسين معيشة أهل القرية وتحقيق أحلامهم حول أبنائهم يستوجب التعاون مع الغرباء وبيعهم الأرض الفائضة عن مساحة ' الحاكورة '، أي المساحة الفائضة عن حاجة العائلة من الأرض الزراعية.
بعد مرور ثلاثين سنة، أو ما يزيد قليلاً، وجد أهلُ القرية الأصليين أنهم أصبحوا أقلية في قريتهم، وأن الأرض الجيدة، الصالحة للزراعة، قد ذهبت إلى الغرباء الذين بنوا عليها قصوراً، وعليها أسسوا البساتين والجنائن الخلابة، وزرعوها بالأشجار من ألوان شتى. فاضطر أبناء القرية القادرين على العمل أن يعملوا عند الغرباء حراساً وحراثين، وأجبرَ أهل القرية على الرحيل ليسكونوا عند مصاب الأودية التي حولتها الحكومة مع الزمن إلى قنوات لتصريف المجاري والمياه العادمة. وها قد مرت خمسون سنة على تلك القرية المنكوبة، وما زال المسنون الذين بقوا على قيد الحياة يتذكرون المختار والقطاريز الستة، ويشتمونهم على النصائح التي أدت إلى افقارهم وتجريدهم مما كانوا يمتلكون من أرض، وكيف أحالتهم إلى حراثين وحرس، ليس لهم قيمة إلا في ما يتقنون من أعمال. وقد سمعت من بعض المسنين ألوان الشتم الذي كالوه على المختار ' أبي جهل '، وعلى ' أبي رغال ' الذي كان له الدور الرئيس في كشف سوأة اهل القرية، وبان لي أن أهل القرية قد أسموا قصير القامة ' أبو رغال ' لظنهم أن دوره لم يختلف عن دور أبي رغال الثقفي عندما عمل دليلاً لجيش أبرهه الشرم عندما أراد أن يهدم الكعبة المشرفة.
التقطت الشاعرة عزيزة بني هاني تلك الحكاية وهي تذرف الدمع، وأنشأت تقول:
قـبـحـكَ الـلـهُ أبـا رغـالْ ... مـا زلـتَ سـوءاً فـي الـمـثـالْ
إذ أن شـيـنــَـك مـا ثـلٌ ... لـلـعـيـن ِ مـن قـبـح الـخـصـالْ
كـأنـهُ نـارُ الـقِـرى ... مـُحـمّـلا ً عـلـى الـجـمـالْ ...
كـالـجـرح ِ فـي وجـهٍ جـمـيـلْ ... مـا انـفـك إلا أن يَـبـان ْ
ورّثـتَ نـسـلا ً سـادرا ً ... فـي الـقـبـح ِ يـبـدو لـلـعـيـان ْ
ما زالت الصورة ماثلة أمامي، وهي صورة تختزل المشهد كله !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق