الجمعة، مايو 04، 2012

فرناندو وقاموس الويل ... (2)


بقلم د. عبدالرزاق بني هاني
كانت آخر جملة تكلم بها صديقي فرناندو: ( ... ويلٌ لمن يكسر قلوب الناس بجبروتهِ، لأنه ينازعُ الربَ بالعظمة، فالحساب قريب، ولم يعد شيءٌ في الدنيا بعيد. ... ).
صعقتني تلك المقولة من الأعماق، وألقت الرعب في قلبي. تذكرت كيف كنت، في الماضي من السنوات، قاسياً في بعض ملاحظاتي ومخاطبتي للناس. كيف تكبرت على إنسانٍ ضعيف ! كيف نبست شفتاي بكلام غير رقيق مع أي إنسانٍ مهما كان، حتى لو كان عدواً خبيثاً. تذكرت أن الكلام الطيب، كما يقولون، يُخرجُ الثعبان من جُحْره.
أرتعش جسدي، وشعرت بقشعريرة تنتابني من أخمص قدمي وحتى مفرق رأسي. وكنت أسأل نفسي ما بال فرناندو يُحدّق بي وكأنه ملك الموت الذي وقف على استعدادٍ كي يخطف روحي. فقلت له: من أين تأتي بهذا الكلام، وكأنك فيلسوف !
قال: تموت الحضارات عندما تموت فلاسفتها !
لكنه تابع كلامه الغريب قائلاً: إن ثلثي المسيحيين وتسعة أعشار المسلمين كاذبون !
قلت: ويحك يا صديقي، لماذا تطلق هذه الأحكام الكاسحة، والفاسدة أصلاً ! لايمكن لهذه الجموع أن تكون كاذبة كما تصفها !
قال: كنت أتوقع منك أيها المغفل أن تستنكر وتستغرب كلامي ! فدعني أذكّرك ببعض ما قال يسوع: ... ماذا لو كسبت الدنيا وخسرت نفسك !؟ ... من صفعك على خدك الأيمن فدر له الأيسر ! ... وقد سأله بطرس : كم مرة يخطىء إليَّ أخي وأنا أسامحه ... هل سبعُ مراتٍ ... قال يسوع لا أقولُ إلى سبعِ مراتٍ، بل إلى سبعين مرة ... ومن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر !
·        فويلٌ لمن جمع المال من اجل المال !
·        وويلُ لمن لا يتسامح !
·        وويلٌ لمن لا يغفرْ لأخيه !
·        وويلٌ لمن اشتغل بعيب أخيه ونسيَ عيبه !
·        وويلٌ لمن يظن بأن الأجراس تعكس صدى صوته !
·        وويلُ لمن يظن أن الجمال في المرآة وليس في القلب !
·        وويلٌ لأعمى يضحك على أعور !
أما المسلمون المنافقون فويلٌ ثم ويلٌ لهم، لأنهم يتحدثون إلى الرب أكثر من خمسِ مراتٍ في اليوم ويرتكبون من الموبقات ما يندى له الجبين ! ويتوضأون، أو يغتسلون، أكثر من مرة في اليوم، ولكنهم يتشبثون بأوساخ قلوبهم الصدأة ! ويقسمون الأيمان المغلظة ثم يحنثون بها وهم مدركون وعاقلون لما تنطق به ألسنتهم ! والحُكمُ عندهم متعة وليس مسؤولية ! يرون بأعينهم تضورَ الجائع ويغضّون الطرف عنه !
·        فويلٌ لمن يُصلي وهو مستهترٌ بربه !
·        وويلٌ لمن يتوضأ وفي نيته أن يتشبث بأوساخ قلبه !
·        وويلٌ لمن يُقسم يميناً، وفي نيته أن يحنث به !
·        وويلٌ ثم ويلٌ ثم ويل لحاكمٍ يستعمل سلطته لقضاء شهواته الدنيوية !
·        وويلٌ لمن شبعَ وجارهُ جائع !
·        وويلٌ لمن يصعد الجبل قبل أن يصل الجبل نفسه !
·        وويلٌ لمن أراد الوصول إلى القمة ولم يبدأ بالقاع !
قلت: سألتك بالرب يا فرناندو توقف، لقد أوجعت قلبي ! فكأنك تقصدني !
قال: نعم أقصدك، فأنت بضميرك تمثل الملايين، ولو كنت صالحاً لأصلح الله حال المنكوبين ! ألم تقرأ قول نبيكم الذي تصلون عليه مرات عديدة في اليوم: ( ... كلُ واحدٍ منكم على ثغرةٍ من ثغر الإسلام، فلا يؤتين من قبله ...). وشعائركم التي فرضها الرب عليكم جميلة وصالحة لحياتكم، وبها قد ترتقوا على سلم المجد الدنيوي، ومجد السماء. لكنني أراكم تستتخدمونها وكأنها قفازات لأياديكم ! فكم من قفازة بيضاء ناصعة تخفي ورائها يداً وسخة وملطخة بالحرام !
في تلك اللحظة انهمرت دموعٌ حارقة من عيني، لم أتمكن من كفكفتها، فقام فرناندو وأعطاني منديلاً من ورقٍ ناعم، مسحت به دموعي، لكن كياني كان يلتهب من قسوة كلامه !
فقال: لن اعتذر لك يا صديقي. لكنني سأقول بعضَ كلماتٍ قد تساعدني في الولوج إلى قلبك الضعيف، وتخلق طمأنينة فيه اتجاهي.
صديقي ...
سأذهبْ وأأتي ... وأهبط وأصعدْ  ...
بقلبٍ يُضيء بنور الشموعْ  ...
سأركضْ وأمضي ... وأحبو وأجثو...
أكفكفُ عنك حريق الدموعْ ...
فوجُهكُ نورٌ ... من البدر جاء ...
يؤججُ في الكونِ نارَ الشموسْ ...
وظلك دربٌ ... يداعب روحي ...
بطولِ الزمان وعُمْر النجومْ ...
إذا الدنيا ضاقت بقلب الصديق ...
أطير به فوق ظل الغيومْ ...
وروحي فداءٌ لروح العشيق ...
أرّوّحُ عنه كثير الهمومْ ...
أبيعُ دمائي لأجل الحبيب ...
وأشربُ عنه مياه السمومْ ...

قلت: كفاك، لقد جرحت قلبي بكلامك الأول، والآن تريد أن ترتو ما قد مزقت منه.

قال: لاعليك، دعني الآن أقص عليك ما سمعته من أبي عندما التقى صحاباً لجدي، بلغ من العُمرِ عِتيا ! ما يزيد على قرنٍ وربع من الزمان، وربما أكثر. كان اسمهُ خوسيه وقد حارب مع جدي إلى جانب القائد أوستين من اجل الحرية. سمعته يردد قصيدة عنوانها (فرناندو)[1]، تتحدث عن قتالهما وتعرضهما لخطر الموت من اجل الحرية. وفي لحظة ما هاجمهم الجنود من كل مكان، ودكوا موقعهم بالبارود، وأمطروهم بالرصاص. كان الخيالة يمتطون جيادهم، ومع بعضهم أبواق يطلقون منها أصواتاً تشجع على القتال:
هل تسمع قرع الطبول يا فرناندو ؟ ...
أذكُرُ منذ زمنٍ بعيد ليلة مرصعة بالنجوم مثل هذه الليلية ...
كنت تهمهمُ مع نفسك ... وتداعب قيثارتك بهدؤ ...
كنت أسمع الطبول من بعيد ...
وأصوات الأبواق كانت تأتي من بعيد ...
إنها أقرب الآن يا فرناندو ...
وقد بدت كل ساعةٍ ودقيقة كأنها الأزل ...
كنت أرتعد يا فرناندو ...
كنا شابين مفعمين بالحياة ولم يكن أحدنا مستعداً للموت ...
ولست خجلاً إن قلت لك ...
بأن زئير البنادق والمدافع كاد يبكيني ...
كان هناك شيء في الفضاء في تلك الليلة  ...
كانت النجوم تسطع وتلألأ يا فرناندو ...
كانت تشع هناك لك ولي ...
من اجل الحرية يا فرناندو ...
ولم أظن قط أننا قد نخسر ...
.
.

توقف فرناندو فجأة عن الكلام ثم همهم بشيء لم أعرفه وقال أغرب عني:
·        من لايملك الخبز لايملك السلطة. أنتم شعوبٌ جائعة، والجائع لايملك أمر نفسه.
04/05/2012
ملاحظة: أهدي هذا الجزء من المقالة إلى أخي منذر حسونة والحكيمة سامية أبيف وم. مها ذويب، علنا نتلمس ما يجري حولنا !!!


[1] -  ترجمة بتصرف للقصيدة المكتوبة من قبل
ANDERSON, STIG / ANDERSSON, BENNY GORAN BROR / ULVAEUS, BJOERN K. / MCCLUSKEY, BUDDY / MCCLUSKEY, MARY

ليست هناك تعليقات: