بقلم د. عبدالرزاق بني هاني
قد يجدُ بعض
الناسِ متعة فكرية غريبة في هذا السؤال الغريب على عقلنا التقليدي ... ذلك العقل
المُدجّن ... العقل المروّض مثلما روضّت الخيلُ المسوّمة. وقد يجدُ فيه آخرون
شيئاَ آخر. وعلى أية حال لاتعني الثورة العنف دائماً، لكنها بالضرورة تعني التغيير
الجذري، وتعني انقلاباً عنيفاً على القيم السائدة كي تجعلها بائدة، وتبديلاً
للثقافة المسيطرة كي نتحرر منها، وتدميراً لعادات وتقاليد مُكبّلِة.
قال توماس
جفيرسون، في حوالي العام 1816، إن تصحيح الأوضاع كل تسعة عشر عاماَ قد يكون أمراً
مرغوباً. والرقم (19) ليس رقماً سحرياً، ولا أدري من أين أتى به، ولماذا فكر فيه
فيلسوفٌ سياسي كبير مثل جيفرسون، لكنه بالتأكيد قصد أن الحاجة إلى التغيير هو أمرٌ
ضروري لحياة المجتمعات إذا أرادت أن تبقى وتزدهر.
يمكننا النظر إلى الثورة
باعتبارها فعلاً مضاداً من نوعٍ ما للأمر الواقع. وعادة ما تُعبّرُ الثورة بذاتها
عن فشلٍ في النظام السياسي – الاجتماعي العام. فهي إما فشلٌ للراعي أو فشلٌ
للرعية. لكنها في معظم الاحيان تعبيرٌ عن فشل سياسات
السلطة، وعدم قدرتها على اطعام البطون الجائعة، واستيعاب العقول الجامحة، أو
العقول التي تحمل أفكاراً ثورية، وتريد أن تُطيح بالمنظومة الثقافية السائدة. وكما
قال جون آدمز: أن المحصلة النهائية للسلطة الساسية تكمن في جعل الناس سعداء، ولذلك
فإن موافقتهم على أفعالها هو الأساس الوحيد لشرعيتها. وكل ذلك مشروط بنوعية
المحكومين. فعندما تكون نوعية المحكومين جيدة تكون نوعية الحكم جيدة، وهذا ما
يلخصه الحديث الشريف: كما تكونوا يُولى عليكم.
إن أصحاب السلطة
السياسية عادةً مايقيسون عقول الآخرين على قدر عقولهم، ويتوقعون أن يسير الناس على
نفس الفلك الفكري والمزاجي الذي يدورون عليه. وهذا بحد ذاته خطأ كبير.
والثورات، مهما
تكن سلمية وبسيطة وبيضاء، فإنها تحمل من الآلام ما يكفي لإلحاق الضرر بالبعض
وإثارة حفيظة آخرين، حتى وإن كانت المجتمعات التي ينتمي إليها هؤلاء مستقرة
ومسالمة. والسبب في ذلك يعود إلى أن الثورة تُطيح، عادة، بمكتسبات بعض الناس. فهي
تعمل على إعادة توزيع للقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع. وقد
قيل إن الثورات في كل مكان مؤلمة، لكنها مخاض لمرحلة جديدة، وقد يُراق فيها دماء،
لكنها تصنع آمالاً عريضة، وتخلق أفكاراً جديدة. والثورة الناجحة تصنعُ مجتمعاً جديداً.
إن التغيير ضرورةٌ
سابقة على الثورة، ومن الصعب جداً على السياسيين القابضين على السلطة أن يتنبؤا
بالعوامل الضرورية المُكونة لظاهرة الثورة. فلو تمكن أحدٌ من التنبؤ بها لما حدثت
ثورات، واستطاع أعداؤها درء خطرها قبل حدوثها. وقد قيل على لسان فيكتور هيجو: قد
يكون من المستحيل تتبع رياح الثورة. والأخطر من ذلك كله هو أن هناك من يظن بأن
الثورات لاتُصنع، بل تأتي على حين غرة كالموت الماحق. وشبّهها بعض الفلاسفة
بالشجرة الراسخة التي تنمو عبر السنين، ولها فعلٌ تراكمي، وجذورها ضاربة في
الحقبات الزمنية الماضية. فمن الثورات ما يُشبه الموت الزؤام المفاجىء الذي
لامقدمات له، ومنها ما يشبه الموت بمرضٍ عضال، قد يعيش صاحبه لبعض الوقت، لكنه لا
يلبث حتى ينتكس تدريجياً، ثم يموت.
في حوالي العام
1814 قال جفيرسون بأن شجرة الثورة لابد أن
تُسقى من دماء الثوار والمستبدين على حدٍ سواء. وقد لايثور الناس بسبب المعاناة،
بقدر ما يتمنوا أن تتحسن أحوالهم المعيشية.
عندما كانت الدولة
رعوية، وأبوية التوجه والسياسة، كان استبدادها مفهوم المعنى، ومسكوتاً عنه. أما
الآن وقد تخلت عن دورها الرعوي – الأبوي، فإن عليها ان تتخلى عن استبدادها مهما
كلفها من أمر. ولا يمكن للتسلط والجوع أن يجتمعا في حيزٍ واحد. فإذا ارادت أن تكون
مستبدة، فإن عليها أن تُطعم البطون الجائعة، وتتصالح مع العقول التي لاتتساوق مع
عقلها وسياساتها. وإن لم تكن قادرة على ذلك فإن عليها أن تُحرر الناس من قيودها
التي أصبحت مثيرة للاشمئزاز.
إن المجتمع
الأردني الراهن، بكل أطيافه الاجتماعية والإثنية، لايميل، وبشكل عام، إلى العنف، ويكره
إراقة الدماء. وقد تعود نظام الحكم على عدم إراقة دماء معارضيه، حتى في أحلك
الظروف. وحيث أن كل ظروف الثورة قد اصبحت مواتية، وأن شروطها قد تراقت بأكثر من
الحد الأدنى، فإن الثورة قد اصبحت ضرورة منطقية، وإن تبعات إجهاضها قد تكون غير
محمودة العواقب.
ومثلما تخيلنا أن
الثورة ممكنة، فليس من الصعب أن نتخيل ثورة خلاقة، لاتراق بها دماء، ولا تطيح
بمكتسبات الغير، إلا من فسد منهم. وهذه الثورة الخلاقة هي الثورة التي تأتي من
الأعلى إلى الأسفل، ومن القمة إلى القاعدة. أي من الحاكم نحو المحكومين. ومن
خلالها يتم اسقاط كل الثمار الفاسدة التي عشعشت ونمت وترعرعت وانتجت تقاليد وأعراف
وثقافة فاسدة، وتسببت بكل الخراب الاقتصادي الذي نعيش في خضمه.
إن الثورة أصبحت
ملحة، وهذه هي فرصتنا، وإلا فإن المعاناة ستبقى إلى ردحٍ طويلٍ من الزمن. وكما قيل:
إن الإرادة والمصير صنوان، لكنهما لايسيران إلا بشكل مضاد لبعضهما بعضاً. وإن
أفكارنا هي لنا، لكن محصلة أفكارنا ليست محكومة بما نريد، فلا نعلم ماذا تخبىء لنا
الأقدار.
drbanihani@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق