الخميس، مارس 08، 2012

بنية الفساد

بسم الله الرحمن الرحيم
الجمعية الأردنية للثقافة والعلوم
05/03/٢٠١٢
عبدالرزاق بني هاني

الحمدُ للهِ رب العالمين ... والصلاة والسلام على سيدي وحبيبي وقرة عيني محمدٍ بن عبدالله ... النبي الأمي، وآله وأصحابه الطيبين الأخيار...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،

في الحقيقة ... ومن باب الإنصافِ لي ولكم ... فقد أتيت ... في محاضراتٍ سابقة ... في أماكن أخرى ... على بعض الافكار التي سأذكرها هنا بين أيادكم الكريمة ... لن أتحدث عن قضايا فساد محددة ... إلا إذا تطرق النقاش فيما بعد إلى قضايا بعينها ... والسبب في ذلك هو مايلي: ... لو تخيلَ كلُ واحدٍ منا ... لعبة الليغو التي يتعلم منها الأطفال ... فإن قضايا الفساد التي يتناولـُها الناس ... في جلساتهم العامة والخاصة ... وتتحدث عنها الصحافة ... هي ما يمكن أن نسميه ... التشطيبات والديكورات النهائية ... التي نحتاجها في اللعبة ... أو لنقل إنها القطعُ الأقلُ حاجة كي نبني اللعبة ... ولا أقول ذلك من باب التنظير أو التسطيح ... أو تتفيه ما حصل ... لكن لأن الحديث عنها قد تجاوزه الزمن ... وأصبح مملاً إلى حدٍ بعيد ... ولم يُعد منتجاً من الناحية الفكرية ... فصورة الفساد التي بانت أمامي ... وأنا على يقينٍ ... أنها بانت أمام آخرين ... كثر من قبلي ... هي أعمُ وأشملُ ... وأعظمُ من قيام فلان ... باختلاسٍ من هنا وهناك ... فهو ... أي الفساد ... قد ظهر بإنه هو لعبة الليغو كلها ... لكنني لم أسمع أن مجموعة طيبة من أمثالكم ... وبهذه المستويات الفكرية المتسامية ... قد تحدثت عنه ... أو خاطبته بشكله الشمولي ... وهو ما آمل أن يحدث في هذا اللقاء الخير ...

لا أعرفُ من أين أبدأ ... 

فالواصفُ يعجزُ عن وصفِ الموصوفِ بكلماتٍ قليلة ... لأن الموصوفَ ضخمٌ ... وجامح ... وقد اجتاح كل جانبٍ من حياة المجتمع ... ولكون الموصوف... وهو الفساد ... قد بدأ بشخصٍ أو أشخاصٍ قليلين ... أو بسبب تشريعٍ ... أو نقصٍ في التشريع ... إلا أنه أصبحَ مع الأيامِ ... ونتيجة لتقاعسِنا المعنوي ... وخوفِنا من اداء واجباتنا الأخلاقية ... والإرهاب الذي مارسته فئة الفاسدين على الناس والمجتمع ... أصبح هذا الفساد ... إفساداً ... وأصبح مؤسسة ... مادية ومعنوية ... راسخة ... عالية ... قوية ... عامة طامة ... تسعى بيننا ... ونحنُ نحسبُها صلاحاً وإصلاحاً ... نعيشُ خلالها ... وفي جوفها ... ونحن نحسبُ أننا خارجها... لم تفعل بنا شيئاً ... لكنها تحكمُ سلوكنا وتصرفاتنا ... من حيث نعلم ولا نعلم ... 

قبل ما يزيد على مئة عام ... قال فيلسوف جنون العظمة والعنف ... فريدريك نيشه ... إن على من يقاتل الوحوش ... أن لا يصبح وحشاً مثلها ... والمقصود هنا ... أن الخطر يكمن في معاشرة الوحوش ... لأن معاشرتهم قد تقلب النفس إلى ذات متوحشة ...

وإذا كنا نظن أننا أمسكنا بها ... أو سنمسك بها بسهولةٍ ويسر ... فإننا نكون واهمين ... أو كمن يذر الرمادَ في عين ذاته ... أو يدفن رأسه في الرمال كي لا يرى الحقيقة المُرة .. أو يخدع نفسه ... لأن ما صنعه الفاسدون ... خلال العقود الماضية ... أصبح شائكاً ... معقداً ... وأخذ شكلاً مادياً ... له أساسات وأعمدة وجدران ... وأصبح من الصعبِ أن نتعرف عليه ... أو نشخصه بسهولة ... وأصعبْ من أن ننهيه ... أو نمحوه خلال أيامٍ ... أو أسابيعٍ ... أو أشهرٍ ... أو أعوامٍ قليلة ... 

ويقيني أننا سنحتاج ... إذا بدأنا اليوم .. إلى عقدين أو أكثر كي نعيد الحال الفاسدة ... إلى حالٍ أقلُ فساداً ... أو لنقل أكثر صلاحاً ... مما كان عليه في الماضي ... أو كما تتمناه النفس الإنسانية السوية ... ومبرري في ذلك ... هو أن الإعمارَ أصعبُ كثيراً من التخريب والفساد ... والأمثلة على ذلك زاخرة ... وكثيرة ... وهاكم مثلاً بسيطاً نعيشهُ الآن ... إن التخريب الاقتصادي الذي حدث خلال السنوات العشر الماضية على يد المخربين الجُدد ... يحتاج إلى ثلاثين عاماً من العمل المُضني حتى نمحو أثره ... إلا إذا ... وهنا أشدد ... إلا إذا ... حدثت معجزة إلهية ... كأن تتعهدَ دولٌ بدعمنا... أو أن تتغير قواعد الاقتصاد الحديث ... فالمديونية وعجز الموازنة كفيلان أن يُحبطا أية محاولة للنهوض الاقتصادي في الأمد المنظور ... وستبقى مشاكلُ الفقر والبطالة وتدني الانتاجية ... من التحديات العظمى التي يواجهها مجتمعنا ... واقتصادنا الوطني ...

نظرتُ في كثيرٍ من قضايا الفساد ... وأزعمُ ... إنني حلّلتُ ... وقارنتُ ... وقاربتُ ... في محاولةٍ موضوعيةٍ ... جادة ... لمعرفة أسباب حدوث الفساد ... ودوافعه ... ومحركاته ... فاصطدمت بواقعٍ مريرٍ ... مُحزن ... حينما وجدت أن القضايا التي نظرتُ فيها ... لم تكن إلا مجردُ اعراضِ الفساد الذي تغلل بيننا ... وليس الفسادُ بعينه ... ويقيني أن الفسادَ بمعناه الحقيقي ... الشمولي ... هو صفةٌ ملازمةٌ ... وملازبة ... يسير جنباً إلى جنب مع الدولة الضعيفة ... الدولة التي يكون فيها الناسُ ... مجرد رعايا ضعفاء ... لا مواطنين لهم حقوق يتمسكون بها ... وعليهم واجبات يؤدونها وهم راضون ... والسلطةُ في هذه الدولة مطلقة ... أو ما شابه ... والضعفُ فيها ليس ضعفاً مادياً ... بل وهنٌ في هيكل الدولة ... وخورٌ في مؤسساتها المتهاوية ... وأشخاصها وأفكارها ... وأفكار الناس ... وأخلاقهم ... وربما يصلُ الأمرُ ... إلى فسادٍ في أفكار بعض المخططين فيها ... أو حالة عجزٍ ... وشللٍ فكري ... أسماها فلاسفة الفكر ... اللإرادتة ... وهي الحالة التي يخفق فيها الإنسان بالقدرة على التفكير ... وابتكار القرار ... واتخاذه إلا في الاتجاه السالب ... حالة اللافعل ... أو السكوت والتقوقع على الذات ...

إن الأردنَ يملكُ من الموارد ... أكثر مما تملكه اليابان ... من الناحية النسبية ... وأكثر مما تملكه كوريا الجنوبية ...كذلك ... لكن المواردَ شيءٌ ... والإرادةُ السياسية ... شيء آخر ... 

إخواني وأخواتي ... 

أنا لا أحلم ... ولست من الحالمين ... لكنني وأياكم ... وكلُ ذي لب ... لابد أن نتسامى على الواقع المرير ... الذي لايخدم إلا فئتين اثنتين ... تتكون الأولى من الأثرياء الطيبين الذي كدّوا وكدحوا حتى كوّنوا ثرواتهم ... فهم منا ونحن منهم ... أما الثانية فهي فئة المخربين الجدد ... قوامها مجموعة قليلة من الفاسدين الذي أثروا على حسابي وحسابك ... وهي مجموعة من المارقين ... الأفاقين ... الذين لا أصل لهم ... ولا جذور ... لعبوا في الاقتصاد والسياسة ... والمجتمع والدولة ... كما يلعب لاعبو السيرك ... قال عنهم بعض المفكرين أنهم فئة الـ (hocus bocus) ... الضحك على الذقون ... ومنهم الذي يُخرج أوراق اللعب من كُمِ قميصه ... ويخرج حمامة من تحت قبعته ... مشروع هنا ... ومشروع هناك ... تخاصية ...قوانين غير دستورية ... وقد جند بهلوانهم الكبير ... الذي علمهم السحر ... عدداً من ابناء البلد ... كي يتستروا على ألاعيبهم ... وجرائمهم ... ويضفوا عليها نوعاً من الشرعية الاجتماعية ... تسللوا تحت جنح الظلام ...على حين غرة وغفلة ... إلى مفاصل الدولة ... وشرّعوا القوانين التي لاتخدم إلا فئتهم ... ومن ثم قاموا بفكفكة ممتلكات الدولة ... وباعوها من اجل حفنة من المال ... فانطبق المثل القائل ... بإن فلاناً مستعدٌ لحرق البلاد والعباد من اجل أن يُـشعل سيجارته ... لكن ... وللأمانة ... أن هدف التخريب لم يكمن بالمال فحسب ... بل في ما هو أخطر منه ... وهو تركيع الدولة والمجتمع حتى يصل إلى الحالةِ التي تحيط بنا الآن ... مديونية بمستويات تجاوزت الخطر ... إلى ما هو أخطر ... عجز في الموازنة ... فقر ... بطالة ... سخط اجتماعي ... رفع الأيادي والرايات البيض ... ثم الاستسلام لقدرٍ مشؤوم ... واحتراب جهوي ... وتدمير الثقة بالدولة ومؤسساتها ... ومن ثم تحقيق المخطط الخفي ... والأجندة الملعونة التي تنتظرنا ... إذا نحن سلمنا للأمر الواقع وتبعاته ... 

في العام 1962 ... كان متوسط دخل الأردني ... مساوياً لمتوسط دخل الكوري الجنوبي ... 200 دولار في السنة ... جاء الجنرال بارك إلى السلطة ... وكان من عادته أن يجمعَ الوزراء والمدراء العامين ... والمسؤولين عن الصناعة والتجارة ... والجمارك ... مرة كل شهر ... 

في أول جلسةٍ طُرحت أفكارٌ بعينها ... وكان من جملتها أن كوريا الجنوبية لابد أن تكون دولة صناعية مُصدرة ... من الإبرة ... وحتى الصاروخ ... وكان من عادة بارك أن يسأل هؤلاء المسؤولين عن معيقات العمل ... عن الأسباب التي تقفُ عثرة في سبيل ذلك الهدف العظيم ... فيقال له كذا وكذا ... فيطلبُ من المسؤول المعني أن يعمل، وعلى الفور ... على إزالة المعيقات التي ذكرت له ... وفي الشهر التالي ... يسأل فيما إذا بقيت المعيقات أمام الهدف ... فيقال له كذا وكذا ... فإذا بقيت تلك المعيقات .. وكان واحدٌ من المسؤولين الحاضرين هو من يتسبب بالمعيقات التي يذكرها مسؤول من هنا أو هناك ... كان بارك يُطلق على ذلك الشخص (المعيق) النار ... ويرديه قتيلاً ... كان بارك دكتاتوراً ... وعنيفاً إلى حدٍ غير معقول ... لكن مبررات عنفه كَمُنَت ... في أنه تعهد أن لايرى كورياً جنوبياً بائساً ... لم يُحب أن يرى واحداً من شعبهِ جائعاً أو محتاجاَ ... أو يقفَ بجانب حاوية للقمامة ... يُخرج منها ما قد يقتات عليه ... مما فاض عن حاجة الأغنياء المترفين ... فالدكتاتورية هنا كانت وسيلة ... لكبح جماح الفساد ... والقضاء عليه ... ثم خلق جيلٍ من المواطنين الذين يؤمنون بوطنهم ... وقدرته ... لا أن يكونوا مرتزقة ... يحبون الوطن عندما يمتلىء ضرعه حليباً ... كي يسرقوا ذلك الحليب ... ثم يغتالونه عندما تجف ينابيعه ...

قرأ الكوريون الجنوبيون خارطة العالم التجارية ... والسياسية ... كانت أمةٌ قد خرجت لتوها من حربٍ طاحنة ... إنتصر فيها الشيوعيون الحمر ... كانت على وشك الهلاك ... لكنها حلت حبوتها ونهضت ...

في كوريا الجنوبية نهر ... اسمه نهر الهان ... وهو نهر ملوث ... كان شعبها أمي ... لم تعرف الرياضيات والفيزياء إلا القلة ... وفي خلال ثلاثةٍ وعشرين عاماً ... نهضت تلك الأمة ... وأصبحت مارداً ... أصبحت كوريا الجنوبية من اعظم دول العالم بصناعاتها المميزة ... سبقت الصين وأمريكا في بعض المضامير ... بدأت بتصدير الظفائر الطبيعية من رؤوس نسائها ... إلى مترفات العالم الجديد في مدينة نيويورك ... وقد قال لي أحد الموظفين في المعهد الكوري للتنمية ... أن الظفيرة الأولى قد تم استرجاعها بعد ما يزيد على أربعين عاماً على بيعها ... كي توضعَ في المتحف الكوري الوطني ... كرمزٍ للتضحية والإرادة الحرة ... وبعد سنواتٍ قليلة شملت صناعاتها ... كل ما يمكن أن تصنعه الآلة الصناعية ... من رقائق الحاسوب ... إلى السفن الكبرى ... وناقلات النفط العملاقة ... وكان شعار شركة هونداي (Hyundai from chip to ship) ... من رقاقة الحاسوب إلى السفينة ... نافس طلبتها على المرتبة الأولى في الرياضيات والفيزياء ... واحتلوا المرتبة الرابعة في هذين الحقلين من العلوم البحتة ، على المستوى العالمي ... يُنتج علماؤها وجامعاتها كماً كبيراً من الابحاث والكتب العلمية ... ويصدرون أفكاراً كثيرة في مجالات التنمية الصناعية ... والتجارة والإدارة ... ولو نظرنا إلى سنغافورة لوجدنا مثالاً حياً آخر ... لكنه أكثر عجباً ... كان التايلنديون قبل عشرين عاماً يقتتاتون على الثعابين ... ولكم في ذلك المثل العظيم ... المفارق ... هم الآن دولة صناعية منافسة ...

أعودُ وأقول ... إن الإرادة السياسية الخيرة ... هي السحرُ في كل ذلك ... فقد غلبت إرادتُهم إرادتنا ... وتفوق شعبُهم على شعبنا ... وخبت عندهم فئة الفاسدين ... بفعل قوى الطرد المركزي التي لامكان فيها لفاسد ... لكن فئة الفاسدين نمت عندنا ... فكم مرة سمعنا عن مسؤولٍ عندهم انتحر لأن أمرَ فسادهِ انكشف ... أما عندنا فإن منظومتنا الاجتماعية التي طورناها من ثقافةٍ فاسدة ... تقضي بحماية الفاسد ... وتصفح عنه ... والفاسد هو صفيق بطبيعته ... إلى درجة يندى لها الجبين ... وهاكم الذي تمت محاكمته شعبياً ... وما زال يتفاخر بأنه فاسد ... وما زالت الفئة الضالة التي شكلها ... تسيد وتميد في بلادنا ... وقد صدق رسولنا الكريم ... في كل ما قال ... وعندما قال ... إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ... إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ... الله أكبر ... 

ما الذي يقودني إلى ذلك؟ ... سؤالٌ ربما يخطرُ على بالِ كل واحدٍ منا ... الجواب بكل بساطة ... هو أننا نتميز عن غيرنا ... ليس عرقياً ... بل بقدرتنا على التكيف مع كل الظروف ... نتميز بإنساننا الذي استطاع ... في الماضي القريب ... أن يتكيفَ مع كل حالات البؤس والحرمان ... واستطاع رغم كل الشقاء ... أن يرتقي على سلم العلم والمعرفة ... بأقل التكاليف ... فليس لدينا نفطٌ أو غاز ... وليس لدينا ماءٌ يكفي ... ولا أرضٍ زراعية كافية ... فقد قضى عليها المخططون الذين تميزوا بفسادٍ فكري رهيب ... لكننا وبرغم ذلك كله ... انجزنا بفعل الإرادة ... عندما كانت هذه الإرادة حرة ... لكن أريد لهذه الإرادة أن تنكسر أمام رياح الفساد والشهوة ... وشبق السطة المدمر ... وشبق السلطة المُدمر ...

لقد تم خداعنا ... وانخدعنا لفترة كافية ... حتى وصلنا إلى حدٍ ... لم نعد عنده مهتمين بمعرفة الحقيقة المُرة ... ولأنه عندما تنطلي علينا الخدعة ... يكون من الصعب أن نعترف بذلك ... وكما قال أحدهم ... عندما تُملكُ أمركَ لدجالٍ ... يعود من الصعب عليك استرداد أمرك من ذلك الدجال ... فلقد ولينا أمر التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى مجموعةٍ من الدجالين ... وها نحن في وسط اللجة ... في خضمٍ لجي ... فوقه ظلمات من المعاناة التي لن تنفرج ... إلا بحبلٍ من الله ثم ... من الناس ...

إن أسوأ ما يكمن في الخديعة التي انطلت علينا جميعاً ... ومررها جهابذة الاقتصاد والسياسة على عقول بعض الناس منا ... هو أننا في نظرهم لانستحق الصدق ... ولإننا في نظرهم شعب غير مؤهل ...

ما أراه أمامي ... وأرجو أن أكون مخطئاً ... هي عبثية كاموس ... (Albert Camus)، ... فترات رواج ... وفترات انحسار ... في فترات الرواج ينصرفُ الناسُ إلى ممارسة حيواتهم المعتادة .... عملوا ... أكلوا ... شربوا ... ناموا ... قضوا شهواتهم كيفما اتفق ... ثم عملوا ... أكلوا ... شربوا ... ناموا ... وقضوا شهواتهم كيفما اتفق... استلابٌ مادي بلغة المنظرين الشيوعين ... وفي فترات الانحسار جاعوا ... وتململوا ... وثاروا ... وهدأوا ... وهذه الأفعال هي ... أيضاً ... شكلٌ من اشكال الاستلاب المادي ... وبالتالي فنحن أمام متوالية عددية من الفعل الإنساني ... لا تنتهي إلا بالموت ... عبثية بكل ما في الكلمة من معنى ... لماذا؟ ... لأنه لم يعد هناك عقلاء ... أو مفكرين ... أو فكر ... أو تربية وإصلاح ... ورقي إلى العلياء ... نبدأ بمناكفات تافهة ... موسم مؤقت لأفكار عابرة ... الحديث عن الفساد بمعناه الضيق جداً ... فلان سرق أو اختلسَ ... ثم تبرد الرؤوس ... وتنتهي المسرحية بمجيء جيلٍ جديد من الفاسدين ... وجيلٍ آخر من البؤساء والمحرومين ... وهكذا ... وكل هذا الحال هو تجسيدٌ لأسطورة سيزيف (Sisyphus) ... هذا الإنسان الخرافي ... الذي عوقب برفع صخرةٍ من قاع الوادي إلى قمة الجبل ... وعندما يقتربُ هذا البائس المسكين إلى القمة ... تسقط الصخرة من يديه وتتدحرج إلى قاع الوادي ... فيعود إلى الوادي كي يرفع الصخرة ثانية ... يحدث معه نفس الشيء عندما يقترب من القمة ... وهكذا إلى أن تنتهي حياته ... ولذلك فإن الواقعَ الحالي ... ثقيلٌ وغريبٌ ...على أنفسنا ...

لقد قال جيمس ماديسون في حوالي العام 1815 ... إن تجمعَ السلطة ... في يدٍ واحدة ... (وهنا لا أقصد الملك، لأن الملكَ يحكمُ من خلال سلطاته الثلاث المفوضة إلى الآخرين)... أعود للقول ... إن تجمع السلطة ... في يدٍ واحدة ... سواء كانت فردية ... أو جماعية ... وراثية ... أو بالقسر الفردي ... أو بالانتخاب ... هو التعريف الحق للاستبداد ... وهذا ماتم تحديداً في بلدنا ... وبعض الدول المشابهة لنا ... من حيث الترتيبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ... وبدون أية مواربة ... وباعتراف البعض ... تم تزوير بعض ممثلي الشعب ... من قبل بعض من يمسكون السلطة ... وبالتالي تزوير إرادة الشعب ... فانفردت السلطة التنفيذية بالتشريع ... لأن المشرعين كانوا تحت سيطرتها ... ويأتمرون بأمرها ... 

ولم يكن أمام السلطة القضائية إلا التسليم بالأمر الواقع ... لقوانين أتتها كمُحصلةٍ لزواج المحارم ... بين السلطة والمال ... والتنفيذ والتشريع ... فاستبدت الحكومة بكل ما قامت به ... مشاريع وهمية ... وتخاصية .... وتقنين غير دستوري ... وقوانين غريبة ... ومؤسسات مستقلة ... لكن من قام بكل ذلك؟ ... الجواب ... هي مجموعة من المتنفذين الفاسدين ... وكما قال توماس جفيرسون ... إن التجارب قد بينت أنه ... وتحت افضل الأشكال الحكومية ... يستطيع أولئك الذين يملكون السلطة أن يحولوها ... من خلال بعض العمليات ... وبعض الوقت ... إلى استبداد ... وفي نظري أن الاستبداد هو علة ... من العلل القوية للفساد ... 

أما بالنسبة للنواب ... فلم أرى في جلهم إلا اللعب بالسياسة ... وتقديم المصلحة الشخصية على مصلحة البلاد والعباد ... ومن يقدم هذه الأشياء على مصلحةِ الوطن والمواطن ... لابد أن يفقدَ هذين الشيئين ... مصلحته ووطنه ... إذا كان هناك وطن ... 

اسمحوا لي أن ارجِعَ قليلاً إلى الوراء ... كي أذكّرَ بلعبة الليغو التي تخيلنا أنها تمثل الفساد ...

تُكوّنُ قطعُ هذه اللعبة شكلاً هندسياً ... تُساعياً ... متساوي الأضلاع ... كلُ ضلعٍ من هذه الاضلاع التسعة ... يُمثل رافداً من روافد الفساد ... وتشكلُ بمجموعها ما يمكن أن نسميه ... بُنية الفساد ... أو منظومة الفساد ... وهذه الإضلاع أو الروافد هي: الاقتصادي ... أي الرافد الاقتصادي ... والسياسي ... والإداري ... والاجتماعي ... والتشريعي ... والثقافي ... والتربوي التعليمي ... والفكري ... والديني ... تسعة اضلاعٍ متساوية الأثر ... كل ضلعٍ منها مربوط بوصلة ... والوصلة مربوطة بخزان ... يعمل الخزان على تغذيةِ كل رافدٍ بطرقٍ متعددة ... لكنها فريدة من نوعها ... وهذا الخزان هو الثقافة المجتمعية ... التي تطفحُ بالفساد ... تغذية راجعة متواترة ... عمرها يزيد عن عدة عقود من الفساد الثقافي ... المقصود ... والمنظم ...

دعوني أقتبس من الباحثين (Gabriela Montinola and Robert Jackman)... من جامعة كاليفورنيا ... وما توصلا إليه حول البحث عن مصادر الفساد... يقول الباحثان ... إنهما أرادا أن يُجيبا على السؤال التالي ... لماذا يطغى الفساد الحكومي (government corruption) ، في مجتمعات معينة ... ويَقلُ في أخرى ؟ ... للإجابة على هذا السؤال فحص الباحثان ما يُسمى الخيارات الاجتماعية (public choice) ... أي المسارات التي يمكن أن يسلكها الإنسان ... ماذا يريد ... كيف نحقق ما يريد ... واكتشفا أن هذه الخيارات ... هي التي تساعد على الفساد من خلال الأطروحة ... التي مفادها ... أن انعدام المنافسة الحقيقية ... في مجالي السياسة والاقتصاد ... تؤدي بالضرورة إلى حدوث الفساد ... كيف ذلك ؟ ... (الاحتكار) ... عندما يتم اختيار الطبقة السياسية من جعبة واحدة (nomenclature) رتيبة ... مُحتَكِرة ... فإن بقية أفراد المجتمع تتهمش إلى حدِ ... عدم الاكتراث ... يشعرُ عنده أصحاب الفئة المحضية ... أن لهم الحق الإلهي بالتصرف كيفما يشاؤوا ... لا أحد يسأل ... لا أحد يبحث ... أو يكترث ... إلا بعد فوات الأوان ... وهذا ما أثبتته مجلة الـ (The Economist) ... وما حدث في الأردن إلى حدٍ بعيد ... أما بالنسبةِ للمنافسة الاقتصادية ... فحدث ولا حرج ... لأن الكعكة لم ينلها إلا القلة القليلة من أفراد المجتمع ... ومن هذه القلة حدث فسادٌ ... وفساد ... وهناك منهم ... من أفسد حتى يعظم حصته التي حصل عليها بفعل الفساد ...

إن اللافت في الأمر ... أن الباحثين قد وجدا ... أن الفسادَ في حالة الدكتاتورية يقل عما هو في حالة الديموقراطية الجزئية ... والفسادُ أكثر انتشاراً في المجتمعات الفقيرة التي تكون فيها مداخيل موظفي القطاع العام منخفضة ...

اسمحوا لي أن أبين تالياً كيف تداخلت روافد الفساد عندنا ... تداخلت وخلقت صورة مشوهة إلى حدٍ بعيد ... وقد قصدتُ أن أضعها بالشكل التالي حتى تغدو الصورة قابلة للتسويغ المنطقي ... وقصدتُ أن أخلط السياسي مع الاقتصادي ... مع الفكري والاجتماعي ... مع الأخلاقي ... مع ... مع ... وهي الصورة المربكة الحقيقية في بلدنا ... 

دستورٌ ... ما زالت نصوصهُ قاصرة عن تحقيق العدالة التي نصبوا إليها ... ويفتقر إلى آليات التحقق والموازنة (checks and balances) ... كي يكون مرجعاً ... لايمكن تجاوزه بسهولة، من أي شخص مهما كان ... وقوانين تحتاج إلى تعديلات ... وعملٍ دؤوب ... كي تصبحَ صالحة ... يعمل بموجبها عامة الناس وخاصتهم ... تنسحب عليهم بطريقة أفقية ... لافرق بين هذا وذاك ... وبموجبها تتم محاسبة كل فاسد ... أفسد في الماضي ... وما زال يفسد في الحاضر ... وقد يُفسِد في المستقبل ... اقتصادٌ متهالك نبقيه حياً بالمُسكنات اليومية ... بحبلٍ من اللهِ ... ومن الناس ... بقروضٍ يُرادُ منها أن تركعَنا جميعاً مقابل استحقاقات سياسية مُحددة ... رجالُ دولةٍ فاسدون ... عملوا بالليل والنهار حتى أوصلونا إلى ما نحن فيه ... مجتمعٌ مُفتت ... عَمِلَ المفسدون على تدمير أساساته ... ونقض نسيجه ... من اجل ماذا ... من اجل أن يبقوه ضعيفاً أمام مغريات الحياة المتهافتة ... من اجل سقط المتاع ... من اجل المال والشهوة ... من اجل أن يتمكن منه العدو حينما يشاء ... وكيفما يشاء ... 

تسليعٌ (commodification) منظمٌ للشرف ... والأفكار ... والإعلام ... أي جعلها سلعة تباعُ وتشترى ... كما يُشترى الأكلُ والشراب ... ثقافة فسادٍ ... نقضي حياتنا وحاجاتنا اليومية بموجب عُرفِها وقوانينها غير المكتوبة ... وننهل منها مواقفنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ... ولم يَعد معروفاً على وجه اليقين ... للحليم منا ... أن الثقافة الفاسدة هو ما أنتج الفساد ... أم أن الفسادَ أنتج ثقافة فاسدة ... فالحليم فينا حيران ... مناهج تربوية فاشلة ... أراد منها المخططون الفاسدون أن يُنتجوا مواطناً يقدمُ مصلحتهُ على كل المصالح ... (إنسانٌ دارويني) ... مواطنٌ أناني لايعرفُ إلا نفسه ... وإذا بالغ فإنه يعرف عشيرته وبلدته مسقط رأسه ... ويقدمُهُما على وطنهِ ... وأبناء وطنه ... وإذا قلت له شيئاً عن الوطن والوطنية ... سخر منك ... لأن هاتين الكلمتين ليستا في مفردات قاموسه ... لأننا لا نعيش في وطن ... بل في جغرافيا سياسية مشوهة ... تم تشويهها عن سبق إصرارٍ وتعمد ... ومجتمع مشرذم حتى النخاع ... فمن الأمثلة الصارخة على ذلك ... أن البداوة ... التي هي مجردُ طريقة حياة ... قد جُعلت عرقاً ... يختلف عن بقية مكونات المجتمع ... وكأننا نعيش في رقعة جغرافية مترامية الأطراف... (التجربة الاقتصادية) ...

إن المأساة التي تكتنفنا من حيث لانعلم ... أن كلَ واحدٍ منا يُغني على ليلاه ... وكأنما يغني في طاحونه ... لايسمع إلا نفسه ... أو يرقصُ في عتمة ... لايرى إلا نفسه ... وكما قال أفلاطون " ... إن أعدل الأشياء قسمة بين الناس هو العقل ... " ... وبناءً على ذلك ... ليس هناك مكانٌ للحكمة ... لأن كلَ واحدٍ منا يظن في نفسه أنه الأصلح والأفهم ... فالحكومة ومؤسساتها لا تسمع ... لأنها تظن أنها هي الأقدر على إدارة المرحلة لوحدها دون التحدث مع مواطنيها ... الأحزاب لا تسمع لإنها مؤدلجة ... وإدلوجاتها هي الحَكَمُ على ما يجري ... الفرد لايسمع لأنه ترعرع على التمرد الناعم ... والجماعة لاتسمع ... 

لقد تم تحويل الأجواء كلها ... والمشهد برمته ... إلى مستنقع مشحون بالتراشق في جميع الاتجاهات ... تسمى هذه الحالة في علم النفس السياسي (cacophony) ... وهي أشبهُ ما تكون ... بالحالة العراقية ... كل الإشارات الضوئية مفتوحة ... كلها حمراء ... وخضراء ... وصفراء بنفس الوقت ... من أجل تعظيم حالات الارتباك والتصادم ... والقتل والفساد ... وأن يتلهى الناس ببعضهم البعض ... مقصودة بشكل منظم واستراتيجي ... الهدف النهائي منها ... هو أن يجدَ الفاسدون مكاناً للخروج بعد أن يصفي الناس بعضهم بعضاً ... وينجو الفاسدون باعظم ما يمكن سلبه ... 

ومن جملة ما قام به الفاسدون ... هو وضعهم لأسافين بيني وبينك ... وبين الناس ... كي يفرقوا شملهم ... ويشتتوا كلمتهم ... إسفينٌ بين الشرق والغرب ... وإسفينٌ بين الشمال والجنوب ... وإسفينٌ بين المسلم والمسيحي ... وإسفين بين العربي وغير العربي ... فهذا سلطي ... وهذا كركي ... وهذا بدوي ... وهذا فلسطيني ... وهذا شركسي ... وهكذا ... وهكذا ... حتى انتقلت العدوى إلى العشيرة ... والفخذ من العشيرة ... والعائلة والأسرة ... وانتقلت الخلافات إلى الجامعات التي انقلبت قاعاتها ومدرجاتها من أماكن للعلم والتنوير والمعرفة ... وترسيخ الوطنية ... إلى ساحاتٍ لتصفية الحسابات ... والفُرقة والتجهيل ... ليس بمحض الصدفة .... بل إفسادٌ منظم ... بفعل فاعلٍ خبيث ... عبر سنوات وعقود ... أراد أن تشيع الفتنة والفرقة بين الناس ... حتى يسود هذا الفاسد ... وينفذ مخطط الفساد الذي يريد ... كي يقتتل الناسُ على كراسي التمثيل ... والسلطة الزائفة ... ويتماهى الكلُ مع حالة الفساد المرعبة ... 

وقد جهزوا لك مجموعة من الفاسدين الذين إذا ذكرت الله وحده لعنوك ... وإذا قلت إن أريدُ إلا الإصلاح ما استطعت ... شتموك ... وإذا أسديت نصحاً ... سفهوك وتفهوك ... ووالله لو عُرضت الحال التي نعيش ... على أعظم الحكماء ... فقهاً ... وعمقاً وفهماً ... لاحتار من أين يبدأ ... وأين ينتهي ... واحتار في معالجة الأمر ...

لا أقول ذلك من قبيل فقدان الأمل ... أو الأيس من روح الله ... ففقدان الأمل خطيئة ... والأيس من روح الله كفرٌ بواح ... لكن ... لأنني شخصت الحال حسب مدركاتي الشخصية وجربته بواقعية ... فوجدته أصعبَ من أن يوصفَ بكلمة ... أو جملة ... أو مقالة ... أو كتاب ... ما تليق به موسوعة ضخمة ... تتحدث عن الفساد وتعريفهِ ... واشكالهِ ... وألوانهِ ... وانواعهِ ... التي تغلغلت في شرايين حياتنا ... وأصبحت عاداتٌ ... وموروثات ... وأوثان نعبدها من دون الله ... ومن ثم سلوك وتصرفات ... تتحكم بنا من حيث نعلم أو لا نعلم ... يأتي اختلاس المال العام فيها في قائمة الأشياء الأقلُ خطراً ... وليس المتحدثُ أو المُتحدث بهم ... بمنأى عن خطر هذه الأشكال والألوان من الفساد ... فهي تلفُ حياتنا وتتلفها... وتقضُ مضاجعنا ... وتدمرُ المفاهيم والقيم ... التي تعلمناها من عقيدتنا السمحة ... وتراثنا الفكري والأخلاقي العظيم ... وتشوهُ تاريخنا ... كأمةٍ صنعت مجداً في الغابر من الأيام ... لكننا في هذا الزمن الزامن نندرج في قاع القائمة ... من حيث النزاهة والأخلاق والوطنية ... والقيمة المضافة التي نقدمها إلى الدنيا ... ... وكل ذلك بسبب الفساد وفعله ... فهذا الزمن هو زمن الفساد بامتياز ... وزمن ألعن من زمن الجاهلية الأولى ... والحالة فيه مربكةٌ إلى حدٍ لم نستطع عنده التفريق بين الغث والسمين ... والصالح والطالح ...

مقبولٌ من كل شعوب الأرض أن تحب أوطانها ... إلا أنت وأنا ... فإن محبتنا لوطننا ... المنكوب بالفساد والمفسدين ... تُصنف تحت عناوينٍ شتى ... منها الفتنة ... او الإقليمية ... كما يروج بعض النواب والأعيان الفاسدين ... آكلي السحت والحرام ... ومنها الجهوية ... والعمالة للأجنبي ... وحب المناصب ... والفوضى والمناكفة وكره النظام والدولة ... ومما يؤسف له ويدمي القلب أن هذا الزمن هو زمن الفهلوة ... وإدارة الفهلوة ... فإذا كنت كبيراً اسرق وانهب ما استطعت لإنه ليس هناك من يحاسبك ... وكن عميلاً ... هدفك أن تدمر المجتمع والدولة ... والناس أجمعين إلا اللصوص من أمثالك ... لأنه لن يجرؤ أحدٌ على سؤالك أو محاسبتك ... وإذا قلت كلمة تريد فيها وجه الله ... يخرج عليك ألف شتام ... ولعان ... ومغتال ... ممن دفع لهم ... أو تبرعاً منهم ... لا لشيء بل من اجل أن تكتمل الصورة المربكة المقصودة ... 

في خضم حالة الـ (cacophony) التي أتيتُ عليها ... يغدو الكاذبُ مُصدّقاً... والصادقُ مُكذباً ... والخائنُ أميناً ... والأمينُ خائناً ... وفي هذا الخضم تصعد الرويبضة ... يأتي التافهون من كل حدب وصوب ... من كل الأشكال والألوان والمقاسات ... منهم من أتى من بيوت الهوى ... أصبح منهم مسؤولون كبار ... كبار ... رؤساء وزارات ... 

أذكرُ أن واحداً منهم كان يأتي إلى مكتبه الساعة الثانية عشر ظهراً وهو ثمل ... وأولُ سؤالٍ يتبادرُ إلى ذهنه ويوجهه إلى مدير مكتبه ... ما هي الولائم التي دُعينا إليها اليوم؟ ... أصبح منهم وزراء ... أمناء عامون ... رؤساء هيئات ... موظفون من كل نوع ... انصَبَ جُلَ همهم في تكريس الفساد والإفساد ... وترسيخ أوتاد مؤسسته ... وتقوية الفاسدين وأعوانهم ... حتى أصبح أهون علينا أن نقتلع الجبال الرواسي من أن نتخلص من فاسدٍ حقيقي ... لأن الجعبة (nomenclature)، التي نختار منها رجال الإدارة العامة ملوثة ... وفي هذا السياق أقول ... وفي نفسي حسرة ... وقلبي يتقطع ألماً وحزناً ... بأن واحداً ممن ربوا في حانة لبنات الهوى ... استطاع أن يزرعَ العشرات من اصحاب النفوس المريضة ... في جسمِ ... وشريانِ مؤسسات الدولة المصطفوية ... مؤسسات المملكة الأردنية الهاشمة !!! 

في الوقت ذاته كممت أفواه الفئة القليلة التي تقول " ... يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ... يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ... شهداء بالقسط ... وطوبى للمصلحين ... الذين يُصلحون ما أفسد الناس ..." ... ومن كثرة سكوتنا على الفسادِ واستشرائهِ بين ظهرانينا ... والصراع داخل حقل التشتت الرهيب ... ضاعت الحقوق ... وأنتشر الفقر والجوع ... والعوز والجريمة ... والتسول والرشى ... والنصب والاحتيال ... بين الصغار والكبار ... فسادٌ لايوفر أحداً ... يُطيح بنا جميعاً ... الكبير قبل الصغير ... وبالتالي كان الفسادُ ... بتلك الأشكال والألوان ... هزيمة نكراء للمجتمع وقيمه النبيلة وافراده الطيبين ... لكنه كان نصرٌ مبينٌ مؤزر ... لإرادة الشر والشيطان ...

والغريب في كل ذلك ... أن محاربة الفساد والمُفسدين ... تتم في بعض الأحيان من فاسدين ... أو عاجزين عن قول كلمة الحق ... لقاء ماذا سكت المعنيون بمكافحة الفساد؟ ... لقاء الكرسي الزائف ... والسلطة الفارغة ... سكتوا من اجل الشعور بنشوة زائلة ... بعظمة هي أقرب إلى الاحتقار من عظمة حقيقية ... وكلُ ذلك من قبيل خلط الأوراق وايهام الناس ... 

اخواني ... اخواتي ...

كيف ترقى المجتمعات وتتطور؟ ... لا أقصد هنا الرقي أو التطور الصناعي ... لكني أقصد الرقي والتطور السياسي والاجتماعي ... الذي هو أساسٌ لكل رقي ... وكل تطور ... وكل عظمةٍ يتمناها أي إنسان ... سؤال طرحه كثيرٌ من الفلاسفة ... طرحه من يريدون الارتقاء باوطانهم ... ونشلها من براثن الفوضى والتخلف والنكوص ... إلى مراتب المدنية الحقة ... وإلى مراتب العظمة ...

كان هناك إجماعٌ ... بين فلاسفة التطور: السياسي والاجتماعي ... ومنهم ماكس ويبر ... على أن المجتمع يقوم تلقائياً بعملية انتخاب طبيعي للأفكار والقيم، وانتقائية لنتاج العقل والمبررات المنطقية (elective affinity) ... يصمدُ منها ويبقى ما يصلح للناس ... ويندثر ويتلاشى ما يضر الناس ... ومن الأفكار والقيم التي تصمد ... يُصاغ ما يسمى القانون الطبيعي (natural law) ... هذا القانون غير المكتوب ... هو الذي بموجبه يتعامل الناس في المجال الاجتماعي ... ويُصاغ منه فيما بعد القانون الوضعي ... وبالتالي فإن حكم القانون ... ليس أي قانون ... بل القانون الرادع ... هو المبدأ الأساس الذي ترتكز عليه عملية التطور ... 

لقد عرّفَ فلاسفة القانون ... أن حكم القانون هو حكم إرادة المجتمع ... وعرّف جون أوستِن ... القانون باعتباره قاعدة وضعت كي تحكمَ سلوك كائنٍ عاقل ... من قبل كائنٍ عاقل آخر يملك سلطة عليه ... " ... 

عند حدوث الفساد ... دون أن يُعاقبُ عليه الفاسد مهما كانت مرتبته .... ووضعه الاجتماعي ... بحكم القانون الرادع ... فإن حُكم غير العاقلين على غير العاقلين يغدو نتيجة منطقية ... ويصبح الناسُ وكأنهم يعيشون في الغاب ... وتصبح شريعة الغاب هي القانون السائد ... القوي يأكل الضعيف ... والكبير يأكل الصغير ... وتتجرد حياة الناس من كل ما يجعل لها قيمة ... وهذا، مع كل الحزن والأسى ... ما آلت إليه البلادُ ... وحُكِمَ به العباد ... صعد الفاسدون إلى الطبقات العليا ... وضعوا السياسات الفاسدة ... ونفذوها بحذافيرها ... حتى أغرقونا إلى جباهنا بمشاريع اقتصادية كاذبة ... بديون وتبعية بالغة الخطورة ... دون أن يرف لأحدهم طرفة عين ... تعهدوا بأن يطعموا الملأ ... المن والسلوى ... والسمن والعسل ... وأن يسكنوهم في قصورٍ وبيوت ... وأن تكون مدارسنا وجامعاتنا ... مناراتٍ للعلم ... يقصدها سوية الناس ... ويهتدي بها المهتدون ... لكن النتيجة التي نراها على ارض الواقع بعيدة كل البعد عن كل ذلك ... فقد قصدوا أن يملأوا حساباتهم من جيوب الناس ... وأن يحبطونا ... ويخذلونا ... ومن ثم تدميرنا ...

مالذي يمكننا عمله ؟ ... بكلمات قليلة ... أن نتكاتف كواطنين من كل المنابت والأصول ... أن لا نكون أغناماً تساق إلى المقصلة حيث يريد الفاسد ... أن نؤمن بأن محاربة الفساد والمفسدين واجبٌ وطني ... لا أماني نتمناها في قلوبنا ... أن نؤمن بأن الإرادة الإنسانية هي أقوى سلاح ... أقوى من الحديد والنار ... نستطيع من خلالها أن نحقق ما يمكن أن يكون مستحيلاً ...أن يُدرك قادتنا ... بأن الله يزعُ بالسلطان ما لايزعُ بالقرآن ...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....

ليست هناك تعليقات: