الخميس، مارس 08، 2012

الخروج من المأزق


الخروج من المأزق
بقلم د. عبدالرزاق بني هاني


تشدني باستمرار بعض الخرافات الإغريقية، التي تصفُ حالاً واقعياً، وتصورهُ بأدق ما يكون من الوصف، ومنها الخرافة الشهيرة المعروفة باسم (سرير بروكرست).

تقولُ هذه الخرافة " ... إن بروكرست كان قاطع طريق، وكان كلما أمسكَ بضحيةٍ يضعُها على سريره، فإذا كانت الضحية أطولَ من السرير قام ببترِ جزءٍ منها حتى تصبحَ على مقاسِ السرير، أما إذا كانت أقصر من السرير فإنه يقوم بشدها إلى أن تصبح على القدر المطلوب ... ".

أقول ذلك لأنني أرى أن أوضاع الوطن لا تسير على ما يرام ... إنها تسير نحو الانفلات من عقالِ المنطقِ والمعقول، ولأن هناك فاسدين يتلاعبون بالحقائق بوضعها على مذبح الباطل، أو على سرير بروكرست، فيبتروها تارة، ويشدوها تارة أخرى حتى تغدو على المقاس.

إن البلاد تقف الآن على مفترق طرق، إما إلى الأمام نحو الإصلاح والتنمية الشاملة ( وليس أقل من ذلك )، أو البقاء مرهونة لعاديات الزمن والأمواج المتلاطمة ورياح التغيير التي تعصف بها من كل حدب وصوب، وبالتالي الانتكاس والرجوع إلى حال من التخلف ومزيد من التبعية. 

تتجلى أمامي فرصتان: تبدو الأولى فرصة عظيمة إذا اغتنمناها فإنها سترقى بالبلاد وتضع قطارنا التائه على سكة التنمية الشاملة، سياسية، اقتصادية أو اجتماعية. أما الثانية، فهي سكة سوداء مظلمة، تضعنا على الطريق إلى جهنم ... طريق الفوضى والنكوص والريبة والضياع، لا محال.

ليس من قبيل تسطيح الأمور الصعبة إلى حد السذاجة، ولا التمني والتنظير الفارغ، إذا قلت إن التنمية الشاملة قابلة للتحقيق بكل سهولة ويسر، بحدٍ أدنى من المؤثرات الخارجية، ودون أن نرهن سيادتنا إلى مراكز القرارات الدولية. وهذه الفرضية قابلة للاختبار على أرض الواقع. وما هو مطلوب لتحقيق ذلك هو الخروج من إسطورة الإطار الذي صنعه الفاسدون وساعدهم في ذلك بعض قصيري النظر الذين صدّقوهم وتبعوهم إلى كل جحرٍ حفروه. 

من أجل تحقيق التنمية المنشودة لابد أن يتوفر شرطان تبادليان، يتمثل الأول بالإرادة السياسية الخيّرة، بعيداً عن مؤثرات المدرسة الكلبية، وذلك بقبول الأمر الواقع من سخطٍ شعبي، أخذ اشكالاً خطيرة من التعبير والاحتجاجات غير المسبوقة، وكان آخرها تلك التي وقعت أمام مبنى هيئة مكافحة الفساد، واللغة التي استخدمت فيها. ورغم عدم قبولي ببعض مضامين اللغة التي استعملت، إلا إنني لم أفاجأ بحدتها ومستوياتها الصاخبة. 

إن المطالبة بممارسة الإرادة السياسية الحقيقية في محاربة الفساد، دون هوادة أو بطىء، وطي صفحة الماضي والمضي قدماً في اختبار فرضية التنمية الشاملة من خلال الحكومة، ومساعدة مؤسسات المجتمع المدني الشرعية، لهي الحد الأدنى المطلوب في هذه المرحلة المفصلية. 

إن الفصل الكامل بين سلطات الحكومة إلى اقصى درجة ممكنة قد اصبح ضرورة ملحة. ويتبعها في الأهمية إنجاز تشريعات ناظمة للحياة العامة، يأتي في مقدمتها قانون انتخاب عصري يعمل على تمثيل الشعب تمثيلاً حقيقياً مهما كانت نتائجه، ووضع الضمانات اللازمة كي لا يتم إنتاج عناصر النكوص والتخلف التي سادت خلال الحقبة الماضية.

أما الشرط الثاني فيتمثل بقبول القاعدة الشعبية بشيء من الصبر والتأني ... الصبر على ضيق ذات اليد إلى حين لملمة الجراج التي أحدثها الفاسدون، وذلك بهدف إعادة الحياة إلى دواليب الانتاج ومحركات النمو... والتأني في طرح المطالب المعيشية التي تثقل الأحمال الملقاة على السلطة.

تتطلب هذه المرحلة هدؤاً وصبراً ومثابرة لمدة لاتقل عن عشر سنوات عجاف، قد نقتات خلالها على الخبز والزيت والبصل، وليس في ذلك أي عيب أو أدنى مثلبة. 

لابد من الاعتراف أننا مددنا أرجلنا خلال السنوات العشرين الماضية لمسافات أطول مما سمحت به إمكاناتنا المتواضعة، وصدّقنا الكاذبين الفاسدين الذين ادعوا أنهم سيطعمونا السمن والعسل.

إن الاقتصاد الوطني، الهش والضعيف، يتأثر بأي تغيير تتعرض له مكوناته الأساسية. وحيث أن الاستهلاك يُعتبر من المكونات الكبرى للناتج المحلي الاجمالي الوطني، وأن ثقافة الادخار شبه معدومة عند السواد الأعظم من الشعب الأردني، فإن أي مستوى من الأنفاق داخل الاقتصاد الوطني يظهر جلياً وبسرعة فائقة، وينعكس بشكل خاص على مستوى معيشة عامة الناس، لأن ميل الناس إلى الاستهلاك أعظم بكثير من ميلهم نحو الادخار، وبالتالي فإن البرامج التنموية التي نفذت خلال السنوات العشر الماضية، وكان روادها أصحاب المشاريع التنموية الوهمية، لم تحقق أي ارتفاع في مستوى معيشة عامة الناس، وذلك لسببين رئيسين هما: أن مديونية الحكومة قد زادت إلى اضعافٍ مضاعفة، وأن القوة الشرائية للدخل المتاح قد انخفضت إلى مستويات غير مسبوقة، وزاد الفقر وارتفعت البطالة.

أذكر، خلال السنوات العشرين الماضية، أن السلطة التنفيذية، قد استدانت مليارات الدولارات، من مؤسسات التمويل الدولية، من أجل إحداث تنمية في مجالات عديدة، منها الزراعة والمياه والطاقة والتعليم والتعليم العالي والصحة. وقد تتوجت هذه البرامج التنموية ببرنامج التحول الاقتصادي والاجتماعي، الذي كلف (من المنح وعوائد التخاصية) ما يزيد عن 570 مليون دينار. 

عند تفحص الحال التنموية يتبين بأن تراجعاً كبيراً قد حدث في كل هذه القطاعات. فإذا أخذنا معدلات التضخم التي سادت خلال الفترات السابقة بعين الاعتبار نجد أن القيمة المضافة للقطاع الزراعي قد تدهورت بالقيم النسبية والمطلقة، وزادت المستوردات من السلع الغذائية بالقيم النسبية والمطلقة، وتدهور الأمن الغذائي. وتراجع وضع قطاع المياه إلى مستويات خطيرة حتى غدا الاردن من افقر دول العالم بالموازنة المائية. وفي مجال التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر زاد عدد الفقراء وزاد حجم البطالة، وتراجعت تنافسية قطاع التربية والتعليم، حتى وصل تحصيل طلبتنا في الرياضيات والفيزياء، على سبيل المثال، إلى أدنى ما تحقق على المستوى العالمي. أما التعليم العالي ففيه من الكوارث كثير، ولا داعي إلى الخوض في تفاصيل هذه الكوراث، ويكفي أن نقول إن أي من جامعاتنا لم ترق إلى مستوى أول خمسماية جامعة على المستوى العالمي. وفي قطاع الصحة نجد أن وضع القطاع ومستوى ونوعية الخدمات فيه قد تراجعت عما كانت عليه في الماضي، من الناحية النسبية. 

لا مجال إلى جلد الذات أكثر مما يجب، لكن الأهم من ذلك كله أن نعترف بأن برامج التنمية التي تم تنفيذها خلال السنوات العشرين الماضية لم تحقق المرجو منها، فقد كانت مُسكنات تنموية، وليست حلولاً حقيقية دائمة.

في الجانب الآخر من الطيف الفكري أقول انه ليس هناك عصا سحرية يمكن استخدامها لحل مشاكل التنمية والارتقاء بالمواطن إلى مستويات المعيشة المقبولة، فالأمر أصعب مما نتصوره بما اتيح لنا من أدوات، ويتطلب مزيداً من الصبر والتفكير والجَلَدْ على تحمل المرحلة المقبلة التي تبدو للعقلاء أنها ستكون أصعب مما فات، وفيها كثير مما يغث النفس البشرية.

إن التنمية الحقيقية المستدامة تتطلب توظيفاً كاملاً للموارد الاقتصادية من أرض وعمالة ورأس مال حقيقي وقدرات تنظيمية من أجل الوصول إلى أقصى انتاج ممكن. ومن المؤكد أننا سنحتاج إلى زيادة كفاءة الإنفاق وإعدام الهدر مهما كانت مسبباته وقيمته، وتعظيم كفاءة استعمال الموارد الانتاجية الأخرى، والتركيز على استعمال العمالة المحلية ما أمكننا ذلك.

إن السنوات المقبلة ستكون أشد قسوة مما هي عليه في اللحظة الراهنة، وأسوأ مما يتصوره البعض، وسيزداد الضغط على السلطات من أجل التخفيف على عامة الناس الذين تأثروا ويتأثروا بمجريات الأوضاع الاقتصادية الصعبة. وحتى تغدو مطالبنا للناس بتخفيف احتجاجاتها منطقية ومقبولة على الصعيد العملي فإن على السلطات المعنية أن تبعث بالإشارات اللازمة الصحيحة حول جديتها بالاصلاح ومحاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين، وأن تبث التطمينات اللازمة إلى عامة الناس بأن أيام المفسدين قد ولت إلى غير رجعة.

إن الأرادة الحقيقية للانسان الحر تصنع له جناحين يطير بهما فوق مجال المستحيل، لكن لابد أن يعرف نفسه ابتداءً !!!

ليست هناك تعليقات: