فرناندو
وقاموس الويل (3) ...
الأخير
...
بقلم د.
عبدالرزاق بني هاني
كان فرناندو قد سكت قليلاً،
ثم صرخ في وجهي قائلاً: أغرب عن وجهي، من لايملك الخبز لايملك السلطة. أنتم شعوبٌ
جائعة، والجائع لايملك من أمره شيئاً ! ... ورددها ثلاث مرات ... نعم ... نعم ... نعم
... أنتم جياعُ الأرض، والجائعُ لا يملك من أمره شيئاً ... أصبحتم عبيداً، وجُبْنُ
العبيد هو الذي يُديمُ العبودية. أما نحن فإننا نتنسمُ طعماً للحرية مهما كان هذا
الطعم ... ومهما كانت انتقاداتك لحريتنا فهي أفضلُ بكثير من الاستبداد الذي طمس
انسانيتكم !
قلت: حريتكم، يا فرناندو،
بالمباح فقط. حرية تهدر قيمة الإنسان !
ها ها ها ... أطلق فرناندو
ضحكة عالية، لم أعهدها منه من قبل، وقال: إذا كانت حريتنا تهدر قيمة الإنسان، فإن
استبدادكم قد اغتال عقل الإنسان وروحه ونفسه ... أمات الإنسان ... أمات الإنسان
... أمات الإنسان ... ألا تذكر ما قاله فرناندو الجد؟ ... الإنسان دون حرية حيوانٌ
يمشي على أربع ... وأنا لا أتفق مع رأيك بأن إنساننا لا قيمة لحريته، أو أن قيمته
قد انهدرت ! ... دعك من هذا الوهم ... فإنك لا تقول ذلك إلا لأنك مُفلسٌ فكرياً
... لا حجة لديك ... يا صديقي: حرية ضعيفة خيرٌ من عبودية سمينة !
قلت في نفسي: من أين أتى
هذا الملعون ؟ لِمَ يتكلم معي بهذه الطريقة ؟ ولماذا يقصدني عن دون الأصدقاء في
الجامعة رغم كثرتهم ؟ عليَّ أن اتخلص منه ولو بشيء من الإطراء. لم أعد أطيقه لأنه
يتكلم معي بلغةٍ لا أفهم منها إلا نزراً يسيراً ... فقلت: ... آه يا فرناندو ...
حقاً إنك لفيلسوف عظيم !
قال: يا هذا، إني أرى بين
عينيك أنك ما قلتها مخلصاً ... فمن يستطيع الإطراء في وجهك يستطيع شتمك في ظهرك ! وهذه
صفة المنافقين ! ...
قلت في نفسي: أعوذ بالله
... وكأن هذا الملعون قرأ ما في قلبي ! ثم توجهت إليه متكلماً وقلت: أيها الصديق،
إن العبودية مثل بذور النبات التي قد تنبت في كل تربة !
قال: لا ... لاتنبت
العبودية في تربةٍ تحت الشمس، وكذا الفساد ... هذان الملعونان لا ينبتان إلا في
الظلام!
قلت: يا فرناندو إن الحاجة
أساسٌ للعبودية !
قال: لا بل احتقار الإنسان
لذاته وقبوله بها يحطان من قدره وقيمته حتى تغدو العبودية مقبولة له، وتجعله مُحباً
لها !
قلت: حبيبي فرناندو، دعني
أسلم لمنطقك وأقول نحن عبيد فعلاً، فما العمل لاسيما ونحن ضعفاء لاحول لنا ولا قوة
... ولا نملك من أمرنا شيئاً كما قلت ؟ !
قال: تستطيع أنسجة العنكبوت
إذا اتحدت أن تُكبلَ أسداً ... وكلمة تقال في وقتها خيرٌ من ذهب يُعطى في غير وقته
! ... لابد أن يُعاني الإنسان ثمناً لرؤياه. لابد أن تقنع راعي القطيع أنه صالح كي
يسير على نهج الصلاح ... ولا ينبغي للراعي الصالح أن يُضيّع قطيعه !
قلت: الجوع ... الجوع ...
الجوع ... يافرناندو !
قال: وهنا تكمن المشكلة ...
فمن استعبدهُ جسدهُ كان عبداً لأكثر من سيد ! ... لكن الفقر، يا صديقي، هو أبٌ
للثورات والجرائم، وهو لايقع من السماء، بل هو صنيعة فكر الإنسان. لقد ذكرتني بما
سمعته من أبي، إذ قال: إن الفقر هو جريمة الحكومة ! وعليك أن تتذكر بأن الناس
الذين يخضعون بالقوة لايمكن أن تخضع قلوبهم ! ... آه ... رحمك الله يا جدي ... فقد
قرأت في مذكراتك بإن الفقر عدوٌ للسعادة والحرية والأخلاق ... لكن فقر الروح هو
الأخطر علينا جميعاً لأنه غير قابلٍ للإصلاح !
قلت: لقد ملأت نفسي، أيها
الصديق، كلاماً جميلاً لكنني أشعر بالجوع ... لم تعطنِ جواباً عملياً عن حل معضلة
العالم المنكوب الذي علمتني بعض صفاته !
قال وهو يصرخ في وجهي: تباً
لك ... تباً لك ... وتباً للعلماء لأنهم لم يكتشفوا دواءاً للبلادة والغباء ... من
أين آتي لك بروح ... يد الحرية أقوى من المدافع ... والسلطة تلوث الماء الذي تلمسه
... ومن يعبد السلطة لايمانع أن يقتل من أجلها ... لكنه جبان، أيها المغفل ... تباً
لكم يا من تسكنوا العالم المنكوب ... تباً لكم ... وتباً للعلماء الذين لم يكتشفوا،
بعد، دواءاً للبلادة والغباء ...
أدار ظهره ومشى ... تركني
فرناندو وهو يرعد ويزبد ... وكنت أرتعد من هول ما سمعته منه ... لقد شعرت بالمهانة
والاحباط من قسوة كلامه الذي فهمت منه جزءاً ولم أفهم جزءاً آخر. وها قد مر ما
يزيد على أربعين عاماً منذ تلك الجلسة الصاخبة ... وأنا أشعر بنفس المهانة حول عدم
قدرة العلماء على اكتشاف دواء مناسب للبلادة والغباء ... لكن حبي لفرناندو قد تحول
بعد هذه السنين إلى كرهٍ أعمى ... فلقد حاول ذلك الملعون أن يخرجني من الظلمات إلى
النور ... وأنا لست مستعداً نفسياً كي أقبل النور ... لأن الظلام قد أعماني وأعمى
بصيرتي ... وبصيرة كل من حولي ... وواكتشفت لتوي بأن الجهل مرتعٌ لكل شرٍ ووحشية
!!!
ملاحظة: أهدي هذا الجزء من
المقال إلى أخي محمد كمال المومني، والسيدة الحنونة من المغرب، وأخي شاكر زلوم و م. سونيا غوانمة ....
علنا نتلمس ما يجري حولنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق