الجمعة، أبريل 20، 2012

الاستبداد سلبٌ للألباب واحتقارٌ للعباد

بقلم د. عبدالرزاق بني هاني
قبل أن أبدأ بشرح رأيي حول عنوان المقال، أود أن أقدم بين يدي الموضع بقصةٍ وردت على لسان الفيلسوف المعلم كونفوشيس. قد تكون هذه القصة نسجاً من الخيال، إلا أن فيها عبرة وحكمة بالغة. تقول القصة:
... أن كونفوشيس غادر ومجموعةٌ من رفاقهِ مكان سكناهم متوجهين إلى بلدةٍ بعيدة، وذلك بناءً على طلبٍ من الحاكم. كان الجو غائماً وبارداً. وقد مشوا مسيرة يومٍ وليلة بين الجبال والتلال الوعرة. وبينما هم على سفحِ أحِد الجبال وإذ بامرأةٍ تجلسُ بين قبرين وهي تبكي.
دنى منها كونفوشيس وسألها عما يبكيها، فقالت ... إن نمراً جائعاً قد التهم زوجي في الأمس، فدفنتُ ما تبقى من جسده في هذا القبر، ...(وأشارت إلى أحد القبرين) ... وها أنا ذا أبكي ولدي الوحيد الذي قتله اليوم نفس النمر الملعون  ... وقد دفنته هنا بقرب أبيه (وأشارت إلى القبر الثاني).
نظر كونفوشيس يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً سوى بعض الأشجار غير المثمرة  والصخور، وسألها ... ماذا تفعلين في هذه القفار الموحشة ؟ ... قالت ... ليس في هذا المكان ظالم ! فتوجه كونفوشيس إلى رفاقهِ وقال ... أي ابنائي ... إن النمر القاتل أهون وأرق من الانسانِ الظالم!
بدأتُ حديثي بهذه القصة من اجل أن أؤكد المعتقد الفلسفي الذي يقول بأن الموت أهونُ وأرقُ على الانسان من الظلم والاستبداد. وهذا يقودني إلى النظرِ في الاستبداد والظلم باعتبارهما حالين وفعلين منافيين وعادمين لأنسانية الانسان، وكرامته التي جعلها الخالق تتويجاً لأعلى مرتبة يمنحها لمخلوق.
إن المستبدَ، وبطبيعته النفسية، مسجونٌ في جملةٍ من الأوهام والأمراض والعُقد النفسية، يأتي في مقدمتها جنون العظمة الفارغة (megalomania )، حيث يظن أنه عظيمٌ لامثيل له، وأن بقية المخلوقات موجودة لخدمته والسهر على راحته. ثم يأتي وهمٌ مستنبطٌ من العقدة الأولى بأنه افضلُ من بقيةِ الناس، فمن المستبدين من يعتقد بأنه ابنٌ للإله، وأن لحمه ودمه وعظمه قد جاءت من تراب وماء الجنة. وثالث هذه الأوهام هو أن له حقٌ إلهي (divine right ) باحتقار الناس مهما كانوا. ورابع هذه الأوهام والعٌقد هو عدم ثقته بأي انسانٍ حتى وإن كان من أقرب اصدقائه، مما يعني أنه على استعدادٍ للتضحيةِ بأي انسان مهما كان من اجل سلطته. وخامس هذه العقد هو سيطرة شهواته واستبدادها بسلوكه. ولو راجعنا تاريخ المستبدين عبر التاريخ لما وجدنا مستبداً عاقلاً أو متنوراً، أو مستبداً مقتصداً بما يملك. لأن المستبد يُبدد ما يملك، ويفترس ما لايتملك، وهو بذلك يتشبه بالوحش المفترس الذي لايوفر شيئاً يقع في مرمى عينيه ! وقد تضطره الحاجة في بعض الاحيان إلى أكل ابنائه !
لقد أثبت تاريخ المستبدين كلهم بأن أكثر الناس خذلاناً لهم يأتون من طبقةٍ يعاني منتسبوها من عقدة النقص (inferiority complex )، أي من جياع السلطة والمهوسون بها مهما كلفت من كراماتهم وانسانيتهم. وقد لاحظت ذلك بشكلٍ واضح في الأردن، إذ كثيراً ما تعرفت على عيناتٍ ليست قليلة من جياع السلطة المستعدين لبيع شرفهم وكراماتهم وانسانيتهم من اجل أن يكونوا على كرسي السلطة أو يبقوا عليه. والمشكلة الخطيرة في المستبد أنه يكتفي بأتفه الاسباب وأحقرها كي يبطش بمن تحته أو بمن يشك بولائه أو يظن أنه خطرٌ عليه وعلى سلطته، فكم مرة سمعنا أن مديراً قد تآمر على أحدِ موظفيه لظنه أنه أذكى أو أفطن منه بالعمل، ويعود السببُ في ذلك إلى أن المستبد لا يمكنهُ العيش بدون سلطة، ولو نُحِيَ جانباً لفقد تسعة أعشار وجوده النفسي وكل وجوده الاجتماعي، فقد سمعت، في هذا السياق، عن أحد رؤساء الوزارات وهو يقول... أنا لا استطيع أن أعيش بدون سلطةٍ مهما كانت ... وإذا فقدتها فإني أشعرُ بحكةٍ في مؤخرة جسدي !! ويذكرتي ذلك بالقول ... إن المستبد الذي يركب النمر قد لايجرؤ على الترجل عنه خوفاً على نفسه من النمر الذي كان يركبه !
وهذا المستبد يشعرُ بالغبطةِ عند قهر الاخرين وإذلالهم، وهو في حاجة مستمرة لقهر الناسِ وإذلالهِم باعتبار ذلك وقوداَ ومحركاً للدوافع الوحشية التي تسيطر على نفسيته. وتتملكه نزعة قوية لمخالفة العرف والقانون لظنهِ أنه انسانٌ غير عادي. وهو يقول بقرارة نفسه، وحسب قاعدة الاستنباط الإرسطية: ... أنا سيدٌ ... والسيدُ سيدٌ على كل شيء ... والقانون مكتوبٌ من بشر ... وأنا سيدٌ على البشر ... ولذلك أنا سيدٌ على القانون.
يتراقى الاستبداد والظلم، في العادة، نتيجة للجهل والفقر والأمراض النفسية التي تتشكل في مخيلة الناس ثم تترجمها المعتقدات والخرافات إلى سلوكياتٍ وأفعالٍ ومواقف. ومن الطبيعي والمنطقي أن نقول بأن الشخصيات المستبدة والظالمة في أية بقعة في العالم تكون بحكم الحال قليلة العدد، لكن هناك ظاهرة مذهلة لم يجد لها علماء النفس تفسيراً مقنعاً حتى هذه اللحظة، وهي ما عبر عنها ريشارد رومبولد (Richard Rumbold ) وجاءت في كتاب ماكولي (Macaulay ) عن تاريخ انجلترا (1685)، حيث قال: ... لا أستطيع أن أصدق بأن العناية الإلهية قد بعثت رجالاً قليلي العدد في هذا العالم ... جاهزين ومستعدين ليمتطوا الصهوات ... وأن هناك الملايين المستعدة (المقيدة) كي تكون السروج التي يمتطيها هؤلاء ...!!! ومعنى ذلك أن المستبدين قليلو العدد وأن المُستبدَ بهم أكثرية مطلقة ونسبية، فكيف تحُكمُ الأقلية الأكثرية. وكيف تتصرف الجموع وكأنها أغنامٌ أمام هؤلاء المستبدين ؟ وهل هناك استعدادٌ فطري عند بعض الناس كي يكونوا طغاة ومستبدين، واستعدادٌ عند آخرين أن يكونوا رقيقاً ومُستعبدين ؟
لقد حاول فرانسيس فوكوياما، صاحب كتاب نهاية التاريخ وخاتمة البشر، أن يُعطي تفسيراً سطحياً لنشؤ ظاهرة السيطرة، أي سيطرة أمة على أخرى، أو سيطرة شخصٍ على آخر، قائلاً بأن صُنّاع التاريخ يأتون في العادة من أولئك الذين يكون لديهم استعدادات فطرية لحب المغامرة والمخاطرة، والقيام بهما لقاء جائزة ينتظرونها نتيجة لمغامراتهم وتحملهم المخاطر. وقد بينت نظرية الثقافة بأن هناك أربعة أنماطٍ ثقافية، منها ما يُمجد المخاطرة والمغامرة، حيث يظن اصحاب هذه الثقافة بأن الطبيعة خالدة وكريمة وليست عنيدة، ومن هذه الثقافة يأتي القادة وصانعو التاريخ. أما النمط الثاني فهو الذي يظن اتباعه أن الطبيعة عنيدة وبخيلة ومؤقتة، وهم جموع الهبل والمغفلين الذين تنهب ثرواتهم دون أن يقاوموا أو أن يلتفتوا إلى اخوانهم من جياع الأرض. والنمط الثالث هو الذي يظن اتباعه بأن الطبيعة تتأرجح بين السخاء والكرم، ولابد من التعاون حولها. أما النمط الرابع فهم الذين لايعرفون ماهية الطبيعة أصلاً.
في ظني أن الاستبداد والظلم لايمارسهُ إلا من يكون سيداً على جموع من المغفلين الذين يظنون بأن  وجودهم في هذه الدنيا مؤقت، وأن الطبيعة التي تلِفُ حياتهم ليست سخية، وبالتالي فهي لاتستحق المغامرة ولا المخاطرة، ولابد من العيش فيها كالأغنام. ولا تكون هذه الثقافة الشائنة إلا مرتعاً للظالمين والمستبدين من كل الأشكال والألوان، وتبدأ من الموظف الصغير وتنتهي بالكبير، وهؤلاء هم أسوأ أنواع الظلمة والمستبيدن بسبب شبق السلطة الذي يسيطر على عقولهم. والنتيجة الجوهرية لكل ذلك أننا قد نرى بشراً يتحركون ويأكلون ويشربون، لكنهم بشرٌ مجردون من الألباب وهم من احقر العباد. وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بعظيم من الازدراءِ بقوله عز وجل ( ... إن شرَ الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون ...). وهم الذين لايعتبرون الحياة إلا مسرحاً ومرتعاً للأكل والتناسل، وليس لكرامة الانسان فيها أي معنى أو قيمة. وما أكثرهم إذا أمعنا النظر. وهنا تكمن مراهنتي على الملك المتنور لينقذ البلاد من شرور المستبدين، لأن في الاستبداد فساد عظيم، يأتي سلب العقول في مقدمته، وامتهان كرامة الانسان في آخره، ولا نرى بين الاثنين إلا حيوانات في مساليخ بشرية. وليس في هذا النمطِ من الثقافة أي نوع من الجمال، بما في ذلك الانسان السوي والحب والايثار والتفاني والابداع والانتماء والنماء. وما هي قيمة الوطن الذي يفتقر إلى كل هذه القيم النبيلة ؟ ومن تخافه الأكثرية عليه أن يزيد خوفه منهم لأنه لا أمان لجائع أو طامع أو من يتملكهُ شبق السلطة.



ليست هناك تعليقات: