الاثنين، أبريل 16، 2012

هلْ نحنُ في حاجةٍ إلى حكومة ؟!


بقلم د. عبدالرزاق بني هاني
سوالٌ غريبٌ، عجيبْ ! ... وربما يكون في غير مكانهِ أو زمانه ... لكنه سؤالْ ... سؤالٌ قد يُحدِث شرخاً في بُنية تفكيرنا التقليدي، لأن عقول الناس، وكما ذكرت في مقالةٍ سابقة، تُروّضُ كما تُروّض الخيل المسوّمة. والعقول المروضة ليست على استعدادٍ أن تقبلَ إلا ما اعتادت عليه، ولا يخرجُ منها إلا ما ألِفتهُ أو ألِفهُ الآخرون، حتى ولو كان روثاً !
لابد، والحال العقلي بهذا السوء، أن أقدم بين يدي اطروحتي رأياً شخصياً بسيطاً، ومفاده أن أسوأ ما  يُمكن أن يتخيله العقل الانساني، إلى جانب الفراغ والفوضى (anarchy)، هو وجودُ جسمٍ لاحاجة له... يعملُ على تعكير مزاج هذا العقل ... يكبلهُ ويبطشُ به ... ولا يرتكز هذا الجسم على العقلانية، بل على توازناتٍ سياسيةٍ فاسدة. وهذا الجسم قام بتحصين ذاته ضد المُحاسبة والمُسائلة، رغم سوءه وفساده وتعسفه ومزاجيته، وتبذيره لموارد الناس الذين هم من صنعوه ونصّبوه عليهم ! ... هذا الجسم هو ما نسميه الحكومة... والحكومة بطبيعة تكوينها ووجودها لم تعُدْ وسيلة صنعها الناس كي تُعينهم على تعظيم سعادتهم، بل أصبحت غاية بذاتها، رغم افتقارها لقيمة جوهرية في داخلها الفارغ. وسبحان الله الذي خلق حكومات زمننا المعاصر، وعلى المستوى العالمي، ليس من أفضل مكونات المجتمعات، بل من المتردية والنطيحة فيها !
ورغم أن الحكومة لم تأتِ إلا من تجريد انساني محض، إلا أنها تحكمُ  الناسَ رغم أنها صُنعت منهم ولاْجلهم، وتتحكم بهم وتتكبر عليهم رغم أنها أقلية فيهم، وتتصرف وكأنها صُنعت من اجل تعذيبهم والتطفل على جهدهم دون مقابل !
وبقدرِ ما يكون في الفراغ والفوضى من سوءٍ ونكوص، فإن في الحكومةِ ما يوازي ذلك السوء من مجرد وجودها فقط. إذ في الوقت الذي لايمكننا أن نتطور ونمشي قدماً دون هذا الجسم البغيض، إلا أننا، ولسوء حظنا وتعاستنا، نرى وبكل وضوحٍ أن هذا الجسم البغيض لا يتطور ولا يمشي قدماً، وهذا هو قمة السخف واللامنطق.
إن وجود المجتمعات البشرية تم في الماضي، ويتم في الوقت الراهن، بناءاً على حاجات البشر بما هم بشر، أي لكونهم بشر. لكن وجود الحكومات قد ظهر كنتيجةٍ حتمية للطمع والجشع من قبل الأقلية الشريرة. وبالتالي فإن المجتمعات البشرية هي المحصلة الخيرة الإيجابية لتفاعل الناس في تجمعاتهم، في حين أن الحكومات هي المحصلة الشريرة السلبية، والتي أقول عنها أنها الشر الذي لابد منه.
إن مسألة التناقض الجوهري بين وجود المجتمع، بما هو محصلة خيرة ايجابية لتفاعل الانسان، والحكومة، بما هي محصلة لقوى الشر السلبية، هي كيف نوفق بين المجتمع كحالةٍ خيرة، وضرورة  الشر المتمثل بوجود الحكومة !!! وهنا أقول إن مسألة الحكومة لابد أن ترجع من أساسها إلى الناس أنفسهم. فهم الذين لابد أن يقرروا أنهم يريدون أن يُحكَموا أو أن يَحكموا أنفسهم.
للاجابة على هذا السؤال المفصلي، لابد من وجود إرادة خيرة تجعلنا قادرين على تشخيص الواقع ورؤية المستقبل ورسمه على النحو الذي نريد. وعلينا ألا ننظر إلى الحكومة، بسلطاتها الثلاث المعهودة، إلا باعتبارها جسماً بغيضاً وشراً لابد منه، يُحتّم علينا أن نجيره لخدمة الصالح العام فقط. ولابد من أن نصمم الحكومة على نحوٍ يجعلها رمزاً مضبوطاً لتوجهات الناس، وكافة الناس. وإن لم يكن ذلك ممكناً، فإن علينا أن نضبطها ونكبلها بالقدر الذي يجعلها ممثلة لكل الأطياف أو الأكثرية الاجتماعية البشرية، لا الأكثرية السياسية الفاسدة.
لابد أن تغدو الحكومة مٌخَطَطَاً من القول والفعل، يكمن هدفه الأول والأخير في تأمين الحاجات الإنسانية للبشر الذين تحكمهم، وليس الأغنام التي ترعاها. فهي، أي الحكومة، أمانة الضعيف في عنق القوي. وقد استوْدعت هذه الأمانة في اعناق الذين ينبغي أن يكونوا أمناء عليها، سواء كانوا رؤساء سلطات أو موظفين عامين من كافة الأصناف والدرجات. ولابد من ترجمة هذه الأمانة بالقول والفعل، وهو إسعاد الناس والوصول بهذه السعادة إلى أقصى درجة ممكنة.
من جملة سعادة الناس الذين تتسلط عليهم الحكومة باعتبارها شراً لابد منه هو ايجاد ذلك التوازن بين وجودها من جهة، وبين مصلحة الناس كتجمعٍ بشري ذي مشارب وحاجات وتوجهات متعددة وهائلة  من جهة أخرى، شريطة أن لايفضي هذا التوازن إلى اختلالٍ أو استبداد. فمهما كانت اهداف الحكومة خيرة، فإن هناك من يستطيع أن يُحيلها إلى شرٍ واستبدادٍ وتسلط. وقد قيل أنه لاتوجد حكومة افضل من الاشخاص المكونين لها. ولايوجد انسان جيد إلى حدٍ كافٍ يستطيع أن يحكم انساناً آخر دون موافقة هذا الآخر.
إن أفضل الحكومات، بل افضل أنواع الحكم، هو الذي لايحكم بالقسر إلا ما ندر أو أقل ما يمكن، ويتسامح أكثر ما يمكن، حتى وإن أتى ذلك على حساب هيبة الدولة المزعومة، فالهيبة شكلُ والناس هم الجوهر والروح والأصل !
أخيراً اقول وأكرر بأن الحكومة شرٌ لابد منه، جاءت كمحصلةٍ لفعل الشر فينا، لكننا بحكمة الناس كلهم، وهي حكمة أعظم من حكمة  الأفراد، يمكننا أن نجعل من شر الحكومة ناراً نستضيء بها ونتدفأ عليها، لا أن تحرقنا وتحرق من حولنا. وهذا الأمر مناط بإرادة الناس لخلق بيئة قانونية صارمة ومفيدة بشكل حقيقي، لا أن تكون شكلاً من أشكال العبث والتعسف عند كل طرف، وأولهم الحكومة ذاتها.



ليست هناك تعليقات: