د. عبدالرزاق بني هاني
في الحقيق، ومن باب الانصاف للكاتب والقارئ, لا أعرفُ من أين أبدأ. فالواصفُ يعجزُ عن وصفِ الموصوفِ بكلماتٍ قليلة, لأن الموصوفَ ضخمٌ, وخطرهُ جامح. ولكون الموصوف, وهو الفساد, قد بدأ بشخصٍ أو أشخاصٍ قليلين, أو بسبب تشريعٍ أو نقصٍ في التشريع,الا أنه مع الايام, ونتيجة لتقاعسنا المعنوي, وإفلاسنا الفكري, وخوفنا من اداء واجباتنا الاخلاقية, والارهاب الذي مارسته فئة الفاسدين على الناس والمجتمع, أصبح هذا الفساد إفساداً, وأصبح مؤسسة, مادية ومعنوية ... راسخة الاوتاد ... عالية البنيان ... قوية الاركان ... عامة طامة ... تسعى بيننا ونحن نحسبُها صلاحاً ... نعيشُ خلالها وفي جوفها ونحن نحسبُ أننا خارجها... تحكمُ سلوكنا وتصرفاتنا, من حيث نعلم ولا نعلم ...
وإذا كنا نظن أننا أمسكنا بها, أو سنمسك بها بسهولةٍ ويسر, فإننا نكون واهمين. أو كمن يذرُ الرمادَ في العيون, أو يدفن رأسه في الرمال كي لا يرى الحقيقة المُرة, أو كمن يخدع نفسه. لأن ما صنعه الفاسدون, خلال العقود الماضية, أصبح شائكا ومعقداً, وأخذ أشكالا مادية لها أساسات وأعمدة وجدران. وهي أصعبُ من أن نتعرفَ عليها ونشخصها بسهولة ... وأصعبُ من أن ننهيها, أو نمحوها خلال أيامٍ قليلة ...
نظرتُ في قضايا الفساد, واستمعت إلى ما يزيد على مئة شخص, رجالا ونساء , وانني حللتُ, وقارنتُ, وقاربتُ, في محاولةٍ موضوعيةٍ, جادة, لمعرفة أسباب حدوث الفساد ودوافعه ومحركاته. فاصطدمت بواقعٍ مريرٍ مُحزن, حينما وجدت أن القضايا التي نظرتُ فيها ما هي الا مجردُ اعراضِ الفساد الذي تغلل بيننا, وليس الفسادُ بعينه. ويقيني أن الفساد بمعناه الحقيقي, الشمولي, هو صفة ملازمة ,يسير جنباً إلى جنب مع الدولة الضعيفة... الدولة التي يكون فيها الناسُ مجرد رعايا ضعفاء, لا مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. وفي هذه الدولة تكون السلطةُ مطلقة, أو ما شابه. والضعفُ هنا ليس ضعفاً اقتصاديا, بل هو وهنٌ وخورٌ في هيكل الدولة, ومؤسساتها المتهاوية, وأشخاصها, وأفكار الناس وأخلاقهم.
وهاكم المظاهر التي بانت أمامي:...
قوانين ما زالت نصوصها قاصرة عن تحقيق العدالة التي نصبوا إليها, وتفتقر إلى آليات التحقق والموازنة (checks and balances), تكون مرجعاً لا يمكن تجاوزه بسهولة.قوانين تحتاج إلى تعديلاتٍ وعملٍ دؤوب كي تصبح صالحة لمحاسبة كل فاسدٍ, أفسد في الماضي, وما زال يُفسد في الحاضر, وقد يفسد في المستقبل.واقتصادٌ متهالك نبقيه حياً بالمُسكنات اليومية, بحبلٍ من الله ومعجزاته, وقروضٍ يُرادُ منها أن تركعنا جميعاً مقابل استحقاقات سياسية مُحددة.ورجالُ دولةٍ فاسدون, عملوا ليل نهار حتى أوصلونا إلى ما نحن فيه.ومجتمعٌ مُفتت, عَمِلَ المُفسدون على تدمير أساساته, ونقض نسيجه. من اجل ماذا? من اجل أن يبقوه ضعيفاً أمام مغريات الحياة المتهافتة, ومن اجل سقط المتاع, ومن اجل المال والشهوة, ومن اجل أن يتمكن منه العدو حينما يشاء, وكيفما يشاء...
تسليعٌ (commodification) منظمٌ للشرف, والافكار والاعلام. أي جعلها سلعة تباعُ وتشترى كما يُشترى الاكل والشراب.وثقافةُ فسادٍ, نقضي حياتنا وحاجاتنا اليومية بموجب عرفها وقوانينها غير المكتوبة, وننهل منها مواقفنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولم يَعد معروفاً على وجه اليقين, للحليم منا, أن فساد الثقافة هي ما أنتج الفساد, أم أن الفساد أنتج ثقافة فاسدة, فالحليم فينا حيران. ومناهج تربوية فاشلة, أراد منها المخططون الفاسدون أن ينتجوا مواطناً يقدمُ مصلحتهُ على كل المصالح, مواطنٌ أناني لا يعرفُ الا نفسه, وإذا بالغ فإنه يعرف عشيرته وبلدته مسقط رأسه, ويقدمُهُماعلى وطنهِ, وأبناء وطنه. وإذا قلت له شيئاً عن الوطن والوطنية سخر منك, لأن هاتين الكلمتين ليستا في مفردات قاموسه.ولأننا لا نعيش في وطن, بل في جغرافيا سياسية مشوهة, ومجتمع مشرذم حتى النخاع.ومن الامثلة الصارخة على ذلك أن جعلوا البداوة, التي هي مجرد طريقة حياة, كأنها عرق.فمُخطِط السياسة المدمرة يتصرفُ وكأننا نعيش على رقعة جغرافية مترامية الاطراف.
إن هول المأساة التي تكتنفنا, من حيث لا نعلم, تكمن في أن كل واحدٍ منا يغني على ليلاه... كأنما يغني في طاحونة, لا يسمع الا نفسه, أو كمن يرقصُ في عتمة, لا يرى الا نفسه. وكما قال أفلاطون: إن أعدل الاشياء قسمة بين الناس هو العقل.فليس هناك مكانٌ للحكمة... لأن كلَ واحدٍ منا يظن في نفسه أنه الاصلح والافهم. فالحكومةُ ومؤسساتُها لا تسمع, لأنها تظن أنها هي الاقدر على إدارة المرحلة لوحدها من دون التحدث مع مواطنيها, والاحزاب لا تسمع لإنها مؤدلجة, وإدلوجاتها الضيقة هي الحَكَمُ على ما يجري. والفرد والجماعة لا يسمعون.
لقد وضع الفاسدون أسافين بيني وبينك... وبين الناس... كي يفرقوا شملهم... ويشتتوا كلمتهم... إسفينٌ بين الشرق والغرب... وإسفينٌ بين الشمال والجنوب... وإسفينٌ بين المسلم والمسيحي... وإسفين بين العربي وغير العربي... فهذا سلطي... وهذا كركي... وهذا بدوي... وهذا فلسطيني... وهذا شركسي... وهكذا... وهكذا... حتى انتقلت العدوى إلى العشيرة... والفخذ من العشيرة... والعائلة والاسرة... وانتقلت الخلافات إلى الجامعات التي انقلبت قاعاتها ومدرجاتها من أماكن للعلم والتنوير والمعرفة وترسيخ الوطنية... إلى ساحات لتصفية الحسابات, والفرقة والتجهيل. ليس بمحض الصدفة, بل بفعلِ إفسادٍ منظم...بفعل فاعلٍ خبيث, عبر سنوات وعقود. أراد هذا الفاسد أن تشيع الفتنة والفرقة بين الناس, حتى يسود هذا الفاسد وتخلو له الساحة, وينفذ مخطط الفساد الذي يريد, كي يقتتل الناسُ على كراسي التمثيل, والسلطة الزائفة, ويتماهى الكلُ مع حالة الفساد المرعبة.وجهزوا لك مجموعة من الفاسدين الذين إذا ذكرت الله وحده لعنوك, وإذا قلت إن أريدُ الا الاصلاح ما استطعت شتموك, ... وإذا أسديت نصيحة سفهوك وتفهوك. ووالله لو عُرضت الحال التي نعيش على أعظم الحكماء فقهاً وعمقاً وفهماً, لاحتار من أين يبدأ وأين ينتهي, واحتار في معالجة الامر.
لا أقول ذلك من قبيل فقدان الامل, أو الأيس من روح الله... لأن فقدان الامل خطيئة... والأيس من روح الله كفرٌ بواح...ولكن لأنني شخصت الحال حسب مدركاتي الشخصية وجربته بواقعية, فوجدته أصعبَ من أن يوصفَ بكلمة أو جملة أو مقالة أو كتاب. ما تليق به موسوعة ضخمة تتحدث عن الفساد وتعريفهِ وأشكالهِ وألوانهِ وأنواعهِ التي تغلغلت في شرايين حياتنا, وأصبحت عاداتٌ وموروثات, وأوثان نعبدها من دون الله, ومن ثم سلوك وتصرفات تتحكم بنا من حيث نعلم أو لا نعلم.ويأتي اختلاس المال العام فيها على قائمة الاشياء الاقلُ خطراً. وليس الكاتب أو القارىء بمنأى عن خطر هذه الاشكال والالوان من الفساد. فهي تلفُ حياتنا وتتلفُها, وتقض مضاجعنا, وتدمر المفاهيم والقيم التي تعلمناها من عقيدتنا السمحة, وتراثنا الفكري والاخلاقي العظيم, وتشوه تاريخنا كأمةٍ صنعت مجداً في الغابر من الايام, لكننا في هذا الزمن الزامن نندرج في قاع القائمة من حيث النزاهة والاخلاق والوطنية والقيمة المضافة التي نقدمها إلى الدنيا, وكل ذلك بسبب الفساد وفعله.فهذا الزمن هو زمن الفساد بامتياز, وزمن ألعن من زمن الجاهلية الاولى, والحال فيه مربكةٌ إلى حدٍ لم نستطع عنده التفريق بين الغث والسمين, والصالح والطالح.
مقبولٌ من كل شعوب الارض أن تحب أوطانها الا أنت وأنا, لأن محبتنا لوطننا المنكوب بالفساد والمفسدين تُصنف تحت عناوينٍ شتى... منها الفتنة أو الاقليمي... ومنها الجهوية...والعمالة للأجنبي... وحب المناصب... والفوضى والمناكفة.
ومما يؤسف له ويدمي القلب أن هذا الزمن هو زمن الفهلوة وإدارة الفهلوة. فإذا كنت كبيراً اسرق وانهب ما استطعت لإنه ليس هناك من يحاسب.وكن عميلاً, هدفك أن تدمر المجتمع والدولة والناس أجمعين الا اللصوص من أمثالك... لأنه لن يجرؤ أحدٌ على سؤالك أو محاسبتك... وإذا قلت كلمة تريد فيها وجه الله... يخرج عليك ألف شتام... ولعان... ومغتال... ممن دُفع لهم... أو تبرعاً منهم... لا لشيء بل من اجل أن يكونوا في زمرة أبي لهب, أو زمرة بيليتوس البنطي.
ياللعار والشنار... كم أشعر بالاشمئزاز... فقد قتلوا النفس... وداسوا على كرامات عباد الله... وما تبقى بعد النفس والعرض والكرامة... جسدٌ لا يختلف عن جسد أي كائن حي, حتى ولو كان كلباً.
في الوقت ذاته كممت أفواه الفئة القليلة التي تقول "... يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم... يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله... شهداء بالقسط... وطوبى للمصلحين... الذين يُصلحون ما أفسد الناس..."... ومن كثرة سكوتنا على الفسادِ واستشرائهِ بين ظهرانينا... ضاعت الحقوق... وحُبس المطر... وأنتشر الفقر والجوع والعوز والجريمة والتسول والرشى والنصب والاحتيال بين الصغار والكبار... فسادٌ لا يوفر أحداً... يطيح بنا جميعاً... الكبير قبل الصغير... وبالتالي كان الفسادُ, بتلك الاشكال والالوان, هزيمة نكراء للمجتمع وافراده, ونصراً مبيناً مؤزراً لإرادة الشر والشيطان.
إن المضحك المُبكي أن محاربة الفساد والمُفسدين تتم في بعض الاحيان من فاسدين, أو عاجزين عن قول كلمة الحق... لقاء ماذا يسكت المعنيون بمكافحة الفساد? لقاء الكرسي الزائف, والسلطة الفارغة التي ستكون حسرة وندامة على من لم يأخذها بحقها.لقد سكتوا من اجل الشعور بنشوةٍزائلة, وعظمةٍ هي أقربُ إلى الاحتقار من عظمةٍ حقيقية.وكل ذلك من قبيل خلط الاوراق وايهام الناس.
كيف ترقى المجتمعات وتتطور? لا أقصد هنا الرقي أو التطور الصناعي, لكنني أقصد الرقي والتطور السياسي والاجتماعي, الذي هو أساسٌ لكل رقي وكل تطور وكل عظمةٍ يتمناها أي إنسان سوي. سؤال طرحه كثيرٌ من الفلاسفة, وطرحه من أرادوا الارتقاء باوطانهم, ونشلها من براثن التخلف والتسلط والفوضي والنكوص, إلى مراتب المدنية الحقة, وإلى مراتب العظمة الحقيقية.
لقد كان هناك إجماعٌ بين فلاسفة التطورين: السياسي والاجتماعي, ومنهم ماكس ويبر, على أن المجتمع يقوم تلقائياً بعملية انتخاب طبيعي للأفكار والقيم, وانتقائية للعقل والمبررات المنطقية (elective affinity).فيصمدُ منها ويبقى ما يصلح للناس, ويندثر ويتلاشى ما يضر الناس.ومن الافكار والقيم التي تصمد يُصاغ ما يسمى القانون الاجتماعي (natural law). وهذا القانون غير المكتوب هو الذي بموجبه يتعامل الناس, ويُصاغ منه فيما بعد القانون الوضعي. وبالتالي فإن حكم القانون, وليس أي قانون, بل القانون الرادع, هو المبدأ الاساس الذي ترتكز عليه عملية التطور.
لقد عرّفَ فلاسفة القانون... أن حكم القانون هو حكم إرادة المجتمع. وقد عرّف جون أوستِن القانون باعتباره قاعدة وضعت كي تحكمَ سلوك كائنٍ عاقل من قبل كائنٍ عاقل آخر يملك سلطة عليه.
عند حدوث الفساد, من دون أن يُعاقبُ عليه الفاسد مهما كانت مرتبته, ووضعه الاجتماعي, بحكم القانون الرادع, فإن حُكم غير العاقلين على غير العاقلين يغدو نتيجة منطقية. ويصبح الناسُ وكأنهم يعيشون في الغاب, وتصبح شريعة الغاب هي القانون السائد, القوي يأكل الضعيف, والكبير يأكل الصغير, وتتجرد حياة الناس من كل ما يجعل لها قيمة.وهذا, مع كل الحزن والاسى, ما آلت إليه البلادُ وحُكِمَ به العباد في ارض الحشد والرباط. صعد الفاسدون إلى الطبقات العليا, وضعوا السياسات الفاسدة, ونفذوها بحذافيرها, حتى أغرقونا إلى جباهنا بمشاريع اقتصادية فاشلة, وديون وتبعية بالغة الخطورة, من دون أن يرف لأحدهم هدب عين. تعهد هؤلاء الفاسدون في يومٍ من الايام بأن يطعموا الملأ مناً وسلوى, وسمناً وعسلاً, وأن يسكنوهم في قصورٍ وبيوت, وأن تكون مدارسنا وجامعاتنا مناراتٍ للعلم, يقصدها سوية الناس, ويهتدي بها المهتدون. لكن النتيجة التي نراها على ارض الواقع بعيدة كل البعد عن كل ذلك. فقد قصدوا أن يملأوا حساباتهم من جيوب الناس, وأن يحبطونا ويخذلونا, ومن ثم تدميرنا.
يا لهول المصيبة التي تشبه سرطاناً, يفتك في جسد الامة ببطء وخبث, ومن دون أن نحس به الا بعد فوات الاوان. لقد بنى هؤلاء الفاسدون هياكل عملاقة من الفساد, تتكون أركانها من اقتصادٍ فاسد, ومن ثقافة فاسدة, ومن مؤسسات اجتماعية فاسدة, ومناهج تربوية وفكرية فاسدة, كان هدفها أن يكون الفساد عرفاً يقبل به الناس طوعا أو كرهاً. لكن الامل معقود على إدراك جلالة الملك وحرصه, والمؤسسات التي لم يلفها الفساد بعد, أن تتنبه إلى أننا في حاجة ماسة لثورة يقودها الملك قبل فوات الاوان.
* أمين عام وزارة التخطيط الأسبق .
* عضو سابق في هيئة مكافحة الفساد .
المقالة منقولة عن موقع العرب اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق