الخميس، أكتوبر 25، 2012

تبديد المال والسلطة عند الورثة ...



بقلم د. فراس بني هاني

التحولُ من شخصٍ بالكاد يقوى على جمع قوت يومه إلى شخص يملك الملايين عمليةٌ مضنية لا يقوى عليها ولا يُتقنها أغلب الناس، وهي تحتاج إلى مواصفات خاصة جداً لا تتوفر لدى السواد الأعظم من البشر، منها التحلي بإرادة فولاذية والصبر والبصيرة النافذة، كذلك لا بد من توفر ميول أخرى في الشخصية مثل العناد والجرأة على المواجهة المباشرة مع أي عقبة تعترض الطريق -فيما يدعى عند أغلب الناس بالوقاحة- وهذه الجزئية مهمة جداً في المعادلة، ولا يكاد الفارق يميز بين الجرأة والوقاحة في عالم الأعمال.
 
حتى نتمكن من استيعاب الصورة بشكلٍ أبسط دعنا نتخيل المشهد التالي: شخصٌ يحملُ ولده الصغير فوق كتفيه ويريد نقل صخرة زجاجية كروية الشكل وثقيلة جداً إلى قمة جبل، فبدأ يدحرجها بعناية ابتداءً من السهل صعوداً إلى القمة .. تخيلوا حجم المصاعب التي سيواجهها هذا الشخص في رحلة الصعود المضنية، إذ لا بد له أن يسيطر على الصخرة من كل جانب فيما يدحرجها للأعلى، والأصعب أنه أحيانا يلزمه تعديل المسار إذا ما صادفته عقبة تصعِّب عليه دحرجة الصخرة من فوقها مع حرصه على الانتباه للصخرة من ناحية المنحدر لئلا تهوي إلى القاع فتتحطم .. فضلاً عن أن قمة الجبل مدببة للغاية وليس بمقدور الصخرة أن تتوازن ذاتياً عليها إذ يلزم بقاء الشخص عند الصخرة ليحافظ على توازنها، فتارة يسندها يميناً وأخرى يساراً، وتارة يدفعها قليلاً إلى الأمام وأخرى يشدّها إلى ناحيته .. ولا ننسى أن الشخص كان يحتاج للراحة مرات عديدة أثناء رحلة الصعود، وكان لا مفرّ من بذل جهد كبير للإبقاء على الصخرة في مكانها في مواجهة الجاذبية حتى في أوقات استراحته.
 
ومع توالي الأيام والسنين حان الوقت للأب كي يترجل عن قمة الجبل ويترك لولده الشاب تولي المهمة .. الشاب رأى كيف يوازن أبوه الصخرة على القمة فكان لديه الخيار بأن يطبق تقنية أبيه فيحافظ على توازنها أو يدفعه الفضول لاكتشاف تقنيات جديدة لموازنة الصخرة بجهد أقل، ولربما يفلح الشاب باكتشاف طرق جديدة لموازنة الحمل الثقيل إلا أن ذلك محفوف بالمخاطر، فأي خطأ في التقدير سيدفع بالصخرة إلى الهاوية.
لم يعِ الفتى الشاب أن مسؤوليات جمة ومتواصلة ينبغي عليه الاضطلاع بها في موقعه الجديد، فسيكون أحمقاً لو أخذ قيلولة وهو في تلك المهمة لأن نسمة ريح بسيطة ستكون كفيلة بالقضاء على توازن الصخرة. وإذا كانت القيلولة في هذا الموضع حماقة فماذا يكون شربه لزجاجة خمر، أو بماذا يوصف إذا قفز يرقص فوق الصخرة؟ لو أنه استحضر معاناة أبيه من قبل ومصاعب الصعود من القاع إلى القمة لما طرَفَت له جفن، وما انفك عن الدوران حول الصخرة ومراقبتها ودس الأحجار الصغير حول أطرافها لضمان ديمومة توازنها، ولكنه للأسف لم يتذوق طعم تعب وجهد أبيه في رحلته الأولى والوحيدة، إذ كان الشاب وقتها ولداً يافعاً وقد مر زمان طويل على تذكر تفاصيل تلك الرحلة.
 
في كل الحالات توجد قواسم مشتركة وفوارق أساسية بين المورث والوريث، فالوريث تؤول إليه نتائج نجاح المورث، ولكن ما يغفل عنه أغلب الورثة أن العزيمة والغاية التي دفعتا المورث لنجاحاته هي أشياء لا تورّثْ، فإن لم تكن تلك الصفات مخلوقة لدى الوريث أو كان قد اكتسبها فإن نتائج نجاح المورث ستزول حتما إما دفعة واحدة أو شيئاً فشيئاً. وثمة حقيقة مريرة مفادها (من النادر جدا أن يحافظ الوريث على تركة كبيرة أسسها مورثه) والأمثلة على تلك الحقيقة لا تعد ولا تحصى ... فبمقابل كل حالة حافظ فيها الوريث على تركة مورثه هناك مائة حالة أضاع فيها الأبناء كامل التركة.




وهذا شيء طبيعي لأن الوريث لم يتعود ولم يعرف طعم المعاناة والصعود من القاع كما فعل مورّثه، فاستلم التركة على أنها بقرة حلوب وكل ظنه أن هذه لن تبيد أبدا، فيطلق نزواته في مغامرات صبيانية كالقمار والنساء وغيرها من مبيدات النعيم حتى يدرك في نهاية المطاف أن ليس بمقدوره الإبقاء على وتيرة النجاح كما كانت في عهد بانيها، وأن العزيمة والقدرة على التأقلم مع واقع المشاريع بمساوئها وحسناتها وظروفها المتقلبة هو شيء لا يورّث بل يكتسب، وصدق الشاعر حين قال:
 
منْ استلمَ البلادَ بغيرِ حَربٍ              هَانَ عليه تسليمُ البلادِ
 

ومن مفارقات القدر أن التبريرات متشابهة لدى هؤلاء عندما تقع الفأس بالرأس، ويواجهون الإفلاس بالادعاء أن هناك ثمة مؤامرات أحيكت لاغتيال نجاحاتهم.




صحيح أن المؤامرات الخارجية تحاك وتفلح أحيانا في كسر من ينجح بذراعه ليصير من أصحاب الملايين ويصعد من القاع بسبب قناعة خصومه بأنه بلا تاريخ أو سند أو أنصار فيتجرؤون على محاولة تصفيته، والنتيجة أنهم قد ينجحون أو لا ينجحون في ذلك .. ولينظر كل واحد منا في حدود علمه، هل يعرف أحدا صعد من القاع وأصبح من أصحاب الملايين ثم عاد وأفلس بسبب نزوات صبيانية لاحقة؟ الجواب: كلا، لا توجد حالة واحدة كهذه.




أما انهيار الإمبراطوريات الموروثة فمردها إلى مؤامرات داخلية تبدأ من الوريث نفسه بعدم معرفته مصلحة نفسه فيبدأ كلُ من حوله بالتنظير والفلسفة الفارغة ويصوروا له "البحر طحينة" بما لا يمت للواقع بصلة، أو النهش والسلب فيما يتسرب الماء من تحت قدميه والوقت من بين أصابع يديه، ومن لا يتقن صناعة الأشياء ليس بمقدوره أن يضبط خطواته على إيقاعها.




عندما يخسر الإنسان ماله يمر بثلاث حالات كمن يفقد عزيزا عليه .. أولها النكران، أي أنه لا يريد أن يصدق ما حصل، ثم تنتابه نوبات غضب تدفعه للانتقام ولكن ذلك لا يوصله لاسترداد ما فقد، ثم لا يملك إلا أن يسلّم بالقضاء الذي لا مردّ له.