رسالة إلى الملك
آهات النفوس وقودٌ ينتظر شرارة
إسطورة الإطار عنوانٌ لكتاب ومُصطلحٌ أطلقه الفيلسوف الألماني كارل بوبر (Karl Popper) في العشرينيات من القرن الماضي.
يقول هذا المُصطلح بأن الإنسان المُستغرق في نمطٍ معينٍ من التفكير لا يستطيع أن يفلت منه إلا بشق النفس. والإطار الذي يتحدث عنه بوبر هو كالصندوق أو القفص الذي يَحبسُ المرءُ نفسه في داخله، فلا يعود قادراً على رؤية الأشياء خارج الصندوق، ولا يرى الأشياء داخل الصندوق إلا بطريقةٍ واحدة، أو بطرقٍ متعددة لكنها تقليدية.
من واجب المُنظّر الحقيقي والجاد أن يُفكر بطريقةٍ مغايرة تختلفُ عن طرق التفكير التي سلكها المُستغرقون في التقليد. ومن واجبهِ أيضاً أن يُشخّصَ الواقع بإيجابياته وسلبياته، وأن يبتكر الحلول مهما كانت غير مألوفة أو غريبة!
دعني أقدم بين يدي الموضوع ببعض الأمثلة على الإستغراق وإسطورة الإطار:
المتسولُ الفقير لا يرى حلاً لمشكلة فقره إلا بالتسوّل، لأنه لم يفكر في سبلٍ أخرى. واللص الطامع لا يرى حلاً لمشكلة النهم والطمع لديه إلا بالسرقةِ والسطو على ممتلكات الآخرين. والسياسي الذي يظن ويعلم بنفسه يقيناً بأنه طارئ ومؤقت، لا يمكنه أن يستمر في الواقع إلا بالكذب والخداع والتضليل حتى يحقق المكاسب المادية المؤقتة والسريعة، وهكذا معظم السياسيين في بلادنا. وعاشقُ السلطة لا يرى في السلطةِ إلا أداة يُذل بها الآخرين. والحكومة العاجزة والمُستغرقة في عجزها لا ترى الحل إلا بتجويع الناس وإرهابهم وتركيعهم كي تغطي على عجزها وفشلها في رؤية الأشياء كما ينبغي.
المبدعون هم وحدهم اللذين حباهم اللهُ ببعد النظر والرؤيا الخلاقة، والتي من خلالها يشخّصون الواقع ويضعون أيديهم على الأوجاع والجراح والمفاصل، ثم يقترحون الحلول.
التقليد هو استخدامُ أدوات الماضي المهترأة، وأدوات الحاضر العاجزة. ولا يمكن للتقليد إلا أن ينهل من مخزون الماضي، وهو مخزونٌ أثبت فشله، سواء كان في السياسات أو الأشخاص اللذين صنعوا أو نفذوا تلك السياسات كالعميان.
لو سألنا كل أو معظم الاقتصاديين في بلادنا، وبخاصةٍ ممن احتلوا أو يحتلون الصدارة في صنع السياسات: ماهي المشكلة الاقتصادية التي يوجهها الأردن، وماهي أسبابها؟
بالتأكيد سيكون الجواب تقليدياً: مديونية، بطالة، عجز موازنة، حماية الدينار، قلة موارد، تعليم، صحة، تكنولوجيا.
لكن لو نظرنا بشيءٍ من الحصافة لوجدنا بأن الإجابة، بالكلمات والمصطلحات التي ألِفها الجاهل والعالم، لم تأتِ إلا من المخزون والجعبة التقليدية! والمُبدع لا يرى فيها إلا نتائجاً لأسباب أعمق وأخطر. فالأوجاعُ والآلام ليست أمراضاً، بل هي أعراضٌ للمرض الذي يكمن في الجسد.
في العام (1962) نشرت جامعة شيكاغو – الولايات المتحدة، كتاباً لمؤرخ العلوم ثوماس كون (Thomas Kuhn)، شرح فيه كيف ترتقي الأمم من خلال الثورات العلمية. وقدم في الكتاب كثيراً من الشواهد الدالة على أن التقليد هو عدو الإبداع، ورجال التقليد هم أعداء التطور والتقدم. وضرب أمثلة كثيرة في سبيل توضح ذلك، وبخاصةٍ على حياة الأوربيين وأنماط معيشتهم. ويقول في واحدٍ من الأمثلة بأن الناسَ قبل مجيء نيكولاس كوبيرنيكوس في العام (1472) كانوا متمسكين بـ نموذج (paradigm) فكري جامد حول الكسوف والخسوف، واعقدوا من خلاله بأن الأرض كانت مركزاً للكون. وبناءً على ذلك المعتقد تمت حساباتهم. لكن كوبيرنيكوس قلب موازينهم وشتت حساباتهم عندما أثبت بأن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية، وأن حسابات الأيام والكسوف والخسوف يجب أن تتم بناءً على مركزية الشمس وليس الآرض.
يقول كون بأن كوبيرنيكوس قد هدم النموذج الذي حكم حياتهم كلها، بما في ذلك حسابات الكسوف والخسوف. وحوّلَ الناس من نموذج تقليدي لم يُعد نافعاً، إلى نموذج آخر أكثر صدقاً ودقة ورحابة. ولو استخدمنا مصطلح كارل بوبر لقلنا بأن كوبيرنيكوس قد أخرج الناس من الصندوق الذي كانوا يعيشون فيه.
المشكلة في بلادنا هي أن الناس قد ألٍفت التقليد، ليس بفعل المعتقدات الدينية مثلما كان الأوربيون، بل بفعلٍ منظم يمارسه أصحاب الرأي المؤثر، والجالسون في الصدارة، وأصحاب المصالح. وقد أصبح هؤلاء المؤثرون أصحاب سلطة أسميها السلطة التفاوضية (bargaining power) التي تصنع الواقع وترسخه وتجذره لمصلحتها ومصلحة المقربين منها، وتحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع بفعل هذه السلطة.
ماهي السلطة التفاوضية؟ وكيف تنشأ ومن هم أصحابها ؟
السلطة التفاوضية هي قوة مادية ومعنوية يكتسبها شخصٌ ما. وتنشأ كنتيجةٍ حتمية لوجوده في موقعٍ بعينه، من حيث المكان والزمان. على أن يحتوي الموقع سلطة مجردة، يتم استغلالها من قبل الشخص الذي يشغل الموقع في تعزيز سلطته الشخصية، المادية والمعنوية. وعلى سبيل المثال: عندما يقومُ موظفٌ عام يشغلُ منصباً عالٍ في السلطة التنفيذية باستغلال موقعه في الإثراء المشروع وغير المشروع، أو رجل الأعمال الذي يستغلُ معارفه وأصدقاءه في تعزيز مكاسب مادية أو معنوية، أو شخص السلطة التشريعية الذي يصيغ التشريعات من أجل تحقيق مكاسب مادية أو معنوية، في الآماد القصيرة والمتوسطة والطويلة، أو الشخص المقرب من رأس السلطة، بحيث يستغل الموقع كي يحقق غاياتٍ غير عامة ومكاسب مادية ومعنوية. وهكذا.
ينطبق معنى السلطة التفاوضية وتعريفها على الأشخاص العاملين في قطاع الإعلام المقرب من السلطة، أو الإعلام الذي له نفوذ بأي شكلٍ من الأشكال. وبناءً على ذلك يتواجدُ أصحاب القوة التفاوضية في المجالات العامة والخاصة، وفي الجسم الرسمي للدولة وخارجه.
يعمل كل هؤلاء على صناعة المؤسسات، بأنواعها وألوانها المتعددة. وعادة ما يُصنف الاقتصاديون المؤسسات تحت شكلين رئيسين: المؤسسات الشكلية (formal institutions) والمؤسسات اللاشكلية (informal institutions). والمؤسسات الشكلية هي الدستور والقوانين الصادرة بموجبه، والأنظمة والتعليمات والقرارات. ولكل هذه المؤسسات أشخاصٌ يؤثرون بها وأشخاصٌ يتأثرون بها، وأشخاصٌ يصنعوها وأشخاصٌ متأثرين بها، تصنع تصرفاتهم وممارساتهم على أرض الواقع.
يكون أصحاب السلطة التفاوضية ممن يصنعون المؤسسات الشكلية ويؤثرون بها وبتنفيذها ، أما بقية البشر فهم المتأثرون بها والخاضعون لها.
المؤسسات اللاشكلية هي العادات والأعراف والتقاليد الحاكمة لسلوك وتوجهات أفراد المجتمع. ولابد أن تكون المؤسسات اللاشكلية مرآة للمؤسسات الشكلية. فإذا كانت عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه سيئة، فإن مؤسساته الشكلية تكون سيئة. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، إذا تسامح الفردُ وقبلَ أن يكون عنصرياً أو طائفياً، أو جهوياً أو إقليمياً فإن تشريعات المجتمع بما في ذلك دستوره وقوانينه تعمل بطريقة أو بأخرى على صناعة هذه المواقف وتعززها وترسخها كعاداتٍ تعمل في خضم المؤسسات اللاشكلية. وإذا اختلس شخصٌ ما أموال العامة والخاصة دون أن يُحاكم ويسكتُ الناس على ذلك، فإن التشريعات الناظمة والعادات الحاكمة تكون فاسدة بالضرورة. ولا يمكن للمؤسسات الشكلية أن تكون صالحة إذا كانت المؤسسات اللاشكلية غير صالحة، وبالتالي لا يمكن أن تأتي المؤسسات الشكلية إلا على شاكلة الأشخاص اللذين صنعوها والمجتمع الذي يقبلُ بها. فإما أن يكون الجميع صالحين أو أن يكون الجميع غير صالحين.
المشكلة الكامنة في المؤسسات اللاشكلية هي أنها تشبه الجبال الرواسي في قدرتها على التحمل والبقاء. وقد يكون من السهل على المجتمع أن يُزيل الجبال الرواسي قبل أن يتخلص من تقليد سيء أو عادةٍ غير حميدة. وقد أثبت علماء الاقتصاد المؤسسي بأن المؤسسات، الشكلية واللاشكلية، هي مواردٌ اقتصادية بامتياز، تشبه الأرض والعمالة ورأس المال والقدرات التنظيمية. ومثلما تأتي هذه الموارد على نوعيات جيدة أو رديئة، فإن المؤسسات الشكلية واللاشكلية تأتي على نوعيات جيدة – حميدة، أو سيئة رديئة.
تعمل المؤسسات الجيدة-الحميدة على تغيير الواقع الاقتصادي السيء- الفقير إلى واقعٍ اقتصادي جيد وغني ثم ثري. وتعمل المؤسسات الرديئة-السيئة على تحويل اقتصاد الوفرة والثراء إلى اقتصاد البؤس والفقر ثم الجوع.
إن قرار صنع المؤسسات بأي شكلٍ من الأشكال: جيدة-حميدة أو رديئة-سيئة، هو قرارٌ سياسيٌ بامتياز،
فالناس على دين ملوكهم، وصلاح الملوك هو مفتاحٌ ذهبي لصلاح الرعية.
من دراستي لتاريخ الأمم وقراءاتي المتنوعة خلصت إلى قوانين لا يمكن أن تخيب:
القانون الأول: إذا كانت مؤسسات المجتمع، الشكلية واللاشكلية، من صناعة أصحاب القوة التفاوضية ولم يتم تغييرها، فإن المجتمع غير قابلٍ للبقاء.
القانون الثاني: الدولة التي يحكمها أصحاب القوة التفاوضية مُعرضة للفتن أكثر من غيرها، وتصاب بانتكاسات اقتصادية وسياسية كل عقدٍ من الزمان.
القانون الثالث: يكون الجسم السكاني (polity) المُكون لدولةٍ يحكمها أصحاب القوة التفاوضية منقسماً أفقياً وعمودياً، ثقافياً واقتصادياً. ويبدأ التصارع الدموي عندما يصل الإنقسام إلى قيمة حرجة. ويتسارع الوصول إلى القيمة الحرجة كلما زاد عدد أصحاب القوة التفاوضية وزاد حجم المكتسبات المادية والمعنوية التي حققوها.
القانون الرابع: عدم إراقة الدماء يطيل عمر الدولة والمجتمع. لكن قوة هذا القانون تضعف إذا ساد الإستبداد، وسادات أحكام عقول العسكر.
القانون الخامس: إذا بدأ الصراع، فهو غير قابلٍ للتوقف.